ويرتبط هذا السؤال بدوام الاستحقاق والتخليد؛ فالجنة والنار هما مكان الثواب والعقاب وتنفيذ قانون الاستحقاق. فإذا كان الاستحقاق دائما، فهل الجنة والنار كذلك؟ إذا بقيتا شاركتا الله في الخلود، ولم يتفرد الله بصفة البقاء، وإذا فنيتا لم يدم الاستحقاق ولم يخلد. القول بدوام الجنة والنار وأبديتهما إنما يخضع للتفسير الحرفي للنصوص «خالدين فيها أبدا»، ولا يتحول الإنسان من الجنة إلى النار أومن النار إلى الجنة إلا بقانون الموازنة أو بالتوبة. وقد يكشف القول بدوام الجنة والنار عن صادية، حيث ينعم المؤمنون إلى الأبد ويتعذب الكفار إلى الأبد دونما تغيير أو أمل. ومع أن الله قادر على إفنائهما إلا أنهما باقيان لا يفنيان. وقد يبدو ذلك متناقضا؛ فإذا كانت الجنة والنار مخلوقتين، فإنهما بالضرورة فانيتان. الخلق يتبعه الفناء، والقدم يتبعه البقاء، ولا يوجد مخلوق يبقى أو قديم يفنى.
15
لذلك كان الأقرب للتنزيه حفاظا على صفة البقاء لله وحده أن تفنى الجنة والنار، وذلك أيضا ظاهر في النص الذي يقول بفناء كل شيء إلا الله، وبقياس عرض الجنة والنار بالسموات والأرض وهما فانيتان. قد يغتم أهل الجنة، ولكن يفرح أهل النار! ويمكن رفض التخليد بناء على حجج طبيعية، وليس فقط على حجج إلهية. فما دامت القوة الجسمانية متناهية، فلا بد من فنائها، كما أن دوام الإحراق مع بقاء الحياة مستحيل عقلا؛ فالإحراق يحيل إلى رماد وينتهي الشيء المحروق، والنار تفنى بالرطوبة؛ وبالتالي تنتهي إلى عدم، وتقل حرارتها كلما طال الزمان، وتفقد الطاقة جزءا منها؛ وبالتالي فمصيرها إلى النهاية والفناء.
16
وانقطاع حركات أهل الجنة والنار حل وسط بين البقاء والفناء؛ فالسكون الدائم يجمع بينهما. وإذا ما أتى وقت الفناء، وكان المؤمن قد تناول بإحدى يديه كأسا وبالأخرى «مزة»، وأتى وقت السكون، فإنه يبقى دائما على هيئة المصلوب! والحقيقة أن ذلك يرتبط بالتوحيد قدر ارتباطه بالمعاد. فلأن مقدورات الله لها كل وغاية، وحد ونهاية، تنتهي قدرته على الخالقية؛ وبالتالي يسكن أهل الجنة فيها، وهو ما يضر التوحيد وإطلاقية الصفات، كما أنه لا يحل مشكلة مشاركة الجنة والنار في صفة البقاء؛ لأنهما يظلان باقيين وإن كانا ساكنين. فهذا الحل الوسط لا يرضي متطلبات التوحيد في الصفات وفي المعاد.
17 (3) الخلود في الأرض
ظهرت دعاوي التجسيم والتشبيه والتنزيه ليس فقط في العقليات، بل في السمعيات، وليس فقط في التوحيد، بل في أمور المعاد. فالتجسيم في التوحيد تجسيم في المعاد، والتشبيه في التوحيد تشبيه في المعاد، والتنزيه في التوحيد تنزيه أيضا في المعاد.
18
والحقيقة أن أمور المعاد كلها خطأ في تفسير النصوص وتحويل للصور الفنية إلى وقائع حادثة؛ فأمور المعاد لا تشير إلى وقائع مادية وحوادث فعلية، وعوالم موجودة بالفعل في مكان ما يعيشها الإنسان في زمان ما، بل هي بواعث سلوكية ودوافع للفعل للتأثير على السلوك، والحث على الطاعة ترغيبا تارة، وترهيبا تارة أخرى. وليس المقصود بالدوافع الثواب على الحسنة والعقاب على السيئة؛ فالأفعال الصالحة لا تحتاج إلى ثواب وعقاب. ويمكن ممارسة الحياة الخلقية بلا جزاء، ثوابا كان أم عقابا. أليس حسن الأفعال في ذاته مدعاة للإتيان بها، وقبح الأفعال لذاته مدعاة لتجنبها؟ وهل ينتج أسلوب الترغيب والترهيب فتحسن الأفعال في الدنيا، أم إنه قد ينتج عند البعض ولا ينتج عند البعض الآخر؟ هل المعاد باعث نفسي على صلاح العالم تخويفا للظالمين، أم إنه يقود برد فعل وهو تعويض المظلومين؟ قد ينجح الترغيب عند الفقراء تعويضا عما هم عليه من فقر، ولكن قد لا ينجح الترهيب عند الأغنياء؛ فالحاضر لديهم أولى من المستقبل. قد لا ينجح مع الظالمين والطغاة والمستغلين إلا الثورة عليهم بالفعل، واسترداد حقوق الفقراء منهم، وحصول الناس على حرياتهم المسلوبة، حتى لو تصدق الأغنياء، فهل الدار الأخرى مكافأة لهم أم لعقابهم على فائض أموالهم؟ وهل أعمال الخير هي الصدقة وإطعام المساكين وبناء المساجد والزوايا والتكايا، أم إعادة توزيع الثروة؟
19
صفحة غير معروفة