وهي كلها صور فنية من أجل المبالغة والتأثير في النفس لا تمنع من بروز المعارض العقلي. فكيف تكون في الأرض وفي الوقت نفسه دار عقاب بعد فناء الأرض ومن عليها؟ وكيف تبرد في ماء البحر مرتين والنار والماء نقيضان لا يجتمعان؟ وبأي نيران يحمى عليها ألف سنة؟ وهي نيران في حاجة إلى نيران أخرى؛ كي يحمى عليها، وتبرز ألوانها البيضاء في الألف سنة الأولى، والحمراء في الألف الثانية، والسوداء في الألف الثالثة، وكل نيران في حاجة إلى نيران إلى ما لا نهاية حتى الوصول إلى نيران أولى ليست في حاجة إلى نيران أخرى لتحميتها. والألوان نوع من الزركشة في الخيال الشعبي حتى تكون أكثر إيقاعا في النفوس. وكيف يكون لخازنها أصابع بعدد أهل النار؟ كيف يكون حال اليد إذن وحال الذراع والجسد كله؟ وما وظيفة كل أصبع؟ وكيف يذيب الأصبع السماء كلها، والخازن في السماء والعرش في السماء؟ وزيادة في العذاب يكون داخل النار الزمهرير والحيات والعقارب حتى يثير التضارب بين الحار والبارد الخيال، وتجتمع لسعة اللهيب مع لسعة العقرب ولدغة الحية، وكله إحساس بالجلد وبسطح البدن. وكما في الجنة درجات كذلك في النار درجات طبقا لدرجات العذاب أو لمجموعات المعذبين. وتقوم الدرجات إما على أجزاء البدن ومساحة الأعضاء المعرضة للعذاب، أو على شدة النيران وخفتها، أو على طول المدة وقصرها. ويظهر هذا التفاضل في صيغة حسية؛ فكما أن للجنة درجات سبعا فكذلك للنار درجات سبعا؛ أعلاها جهنم، وتحتها لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية. وباب كل واحدة من داخل الأخرى على الاستواء، مثل الحمام العمومي وحجراته المتداخلة طبقا لشدة البخار. وبين أعلى جهنم وأسفلها خمس وسبعون سنة، أحرها هواء محرق، لا حجر لها سوى بني آدم وأحجار الأوثان، وهي أحجار قابلة للاشتعال من عظمة جرمها، وكأن الأحجار كائنات حية مثل بني آدم، استقبلت محرقاته وقرابينه. كل درجة لها طائفة ؛ فاللظى لليهود، والحطمة للنصارى، والسعير للصابئين، وسقر للمجوس، والجحيم لعبدة الأصنام، والهاوية للمشركين، وجهنم لمن يعذب على قدر ذنبه من المؤمنين، ثم تصير خرابا بخروجهم منها، وكأن النار تعرف الطائفية الدينية والتفرقة بين الأديان! يتفاضل أهلها في العذاب؛ أقلهم عذابا توضع حجرتان من نار في أخمصيه، ولا يكون الأشد إلا إلى جذب الأذون! يعذب المؤمن العاصي على الصراط وهو على متن جهنم، يصيبه لفح النار ولهبها، فيتألم بمقدار عصيانه، ثم يدخل الجنة. وقد يصل عذاب آخر مثل الجثة المقلاة على نار متأججة! وأخفها إحساس بالعذاب لحظة ثم يصير الإنسان بعدها كالنائم لا يحس بها فعل لحظة من عذابها.
10
قد يتحول عوام الدهرية والنصارى والزنادقة ويصيرون في الآخرة ترابا، وكذلك الأطفال والبهائم،
11
وكذلك السقط الذي ألقي فيه الروح، تعاد إليه ويدخل الجنة كأهلها في الجمال والطول، وإن لم يبلغ ذلك يصير ترابا. والحقيقة أن كل ذي روح تعود له روحه حفاظا على الحياة كأحد مقاصد الوحي الضرورية. إنها كلها صور فنية تعبر عن القبح؛ فجهنم من الجهامة، وهي كراهة المنظر. تنشأ النار من الحسد؛ أي إنها تعبير حسي عن انفعال إنساني، وتصوير فني لأحد المواقف الإنسانية. فإذا كان الإنكار رد فعل على الإثبات، وكلاهما يتحدث في واقعة حسية، فإن التأويل رد فعل عليهما معا عندما يبحث عن أسسها النفسية وصورها الفنية. والتأويل أولى من التفويض؛ لأن التفويض اعتراف بالجهل وتخل عن تأصيل العلم، في حين أن التأويل اجتهاد علم ولو بغلبة ظن.
12
ورغبة في تنزيه الله عن الشر، قد يتنعم أهل النار في النار كما يتنعم أهل الجنة في الجنة؛ وبالتالي لا عذاب ولا ألم.
13
وفي مقابل اعتبار النار في الحقيقة والعذاب في الحقيقة؛ وبالتالي يثبت فعل الله للشر والضرر تكون النار مجازا ويكون العذاب مجازا؛ فبالتأويل يمكن تنزيه الله عن الشر، واعتبار الشر مجازا في العالم؛ وبالتالي يتحقق هدفان في العدل وفي المعاد.
14 (2) هل تفنى الجنة والنار؟
صفحة غير معروفة