15
فالاستحقاق لنفع الإنسان، إثابة المطيع وعقابا للعاصي، به صلاح الإنسان، والله لا يفعل إلا الصلاح، وهو منزه عن جلب النفع لنفسه ودفع الضرر عن ذاته. وإذا كان الإنسان قادرا على إدراك الحسن والقبح في الأفعال، وقادرا على الاختيار بينها، فالاستحقاق واجب عقلي نتيجة لحرية الاختيار وللحسن والقبح العقليين. وتجتمع الحرية والعقل في الطبيعة؛ فقد خلق الله فيها شهوة الحسن ونفرة القبح من أجل وجوب الاستحقاق.
16
إن منع المطيع من الثواب والمسيء من العقاب ظلم، والظلم ضد العدل، والعدل أصل عقلي مثل أصل التوحيد.
17
وإذا كان التكليف مع القدرة فترك الثواب قبيح، وإذا كلف الإنسان الأفعال الشاقة فإنه يستحق عليها الثواب، ولا يجوز التفضل بالثواب ابتداء، وإلا لما تمت الأفعال الشاقة، ولما حسن التكليف بها. ولا يكفي المدح كثواب، بل لا بد من نفع فيه، وكل مدح إنما يخفي وراءه طلب نفع أو دفع مضرة. وإذا كان المدح يتم في الدنيا فإن الثواب يتم في الآخرة؛ وبالتالي ثبتت ضرورة إعادة الأموات واستمرار الحياة بعد الموت لوقوع الثواب، كما يثبت الثواب برجعة الأموات وثبوت حياة بعد الموت، حتى الأفعال النظرية، مثل معرفة الله، بها مشقة الفكر ومعاناة النظر وجهد القريحة، كما أن الخير بطبعه الذي يطيع طبقا لطبيعته يستحق الثواب، ثواب الطبيعة وازدهارها وكمالها والحرص على استقامتها؛ فالطبيعة حرة، والحرية إدراك وجهد. وليس التكليف بالأفعال الشاقة من النعم العظيمة فحسب، بل أيضا لأجل الإثابة عليها استحقاقا ليحيا من حيي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة. فالإنسان لم يكلف عبثا، وحياته امتحان واختبار له بفعله وجهده. إن جهد الفعل يؤدي إلى تقوية الذات وتحقيق إمكانياتها بفعل الإنسان؛ فهو خلق أفعال، وإبداع وجوب يثاب عليه.
18
والاستحقاق أيضا تعبير عن الأصلح، وإن لم يكن تعبيرا عن الأصلح فإنه يكون تعبيرا عن اللطف.
19
والحقيقة أن نتائج الأفعال قد تكون مباشرة في الحال وغير مباشرة في المآل. قد تظهر في الدنيا وقد تتولد بعد انقضاء العمر. قد لا تكون نتائج الأفعال بالضرورة بعد الموت وعلى نحو مادي، بل قد تكون في هذه الدنيا على نحو معنوي. وإن كانت نتائج مادية فقد لا تكون نفعا ماديا مباشرا للفاعل، بقدر ما تكون تحقيقا لمصلحة الجماعة وخلودا في ذكراها. وقد لا يكون الثواب بالضرورة هو الجنة أو العقاب حتما هو النار، ولكن تكون نتائج الأفعال من جنسها دون تحديد أشخاصها. وإذا كانت الأفعال حسنة وقبيحة في ذاتها، وكانت أفعال الإنسان تتم بلا إلزام ولا جزاء، فعليه أن يسعى، وليس عليه إدراك النجاح. وكل استباق للمستقبل خارج بنية الفعل ذاته، فإنه يكون رجما بالغيب، وتجديفا على الله، ودخولا للإنسان فيما لا يخصه، وقد يكون المستقبل أكثر غنى وثراء من رؤية الحاضر له.
صفحة غير معروفة