20
وكان أهل الحق باستمرار أقل عددا من أهل الباطل، وهذا لا يعني التنكر لدور الأغلبية أو إهمال مصالحها أو الإقلال من شأنها؛ فالأغلبية الصامتة يدافع عنها الأنبياء والدعاة والمصلحون، ويعبرون عن مصالحها، ويبعثون فيها النظر وحس العلم حتى تستنير وتستقل فتصبح قادرة على الدفاع عن حقوقها بنفسها وحتى تفرز طليعتها من ثناياها وهم العلماء والفقهاء والأمة، وتكون قادرة على قيادتها وحمايتها. وهذا لا يعني أيضا إنكار دور الأغلبية النظري في الإجماع والنزول على رأيها؛ فالإجماع أحد مصادر التشريع ودرءا لمخاطر الفردية والتسلط والاستبداد بالرأي. ولا يقوم الإجماع على تقليد، بل هو أخذ بالدليل النقلي أو العقلي أو المصلحي الذي يعلمه الجميع.
21
كما لا يجوز تقليد الأزهدين؛ لأن الزهد لا يعني العلم بالضرورة، بل قد ينشأ عن خطأ في الحكم وعلى جهل بالوحي وانحراف بالدين، كما هو الحال عند الصوفية وفي باقي الديانات، كما لا يعني الفضل بالضرورة، بل قد يكشف عن طمع مقنع ورغبة فيما هو أكثر؛ مما في أيدي الناس. هذا بالإضافة إلى أن الزهد ليس حقيقة نظرية وبالتالي فهو ليس دليلا أو برهانا.
22
ولا يمكن تقليد السلف لأن التقليد إنكار لدور العقل، ولضرورة التصديق، وللمسئولية الفردية، ولمهمة الإنسان في التجديد والتطوير والتغيير. تقليد السلف قضاء على الحاضر والمستقبل باسم الماضي، وإيقاف لمسار التاريخ على إحدى مراحله الماضية، فيتحدب التاريخ وتتقوس حركته ويتحول إلى كهف يغلف الإنسان، ويعيش فيه تحت قبوه، وكلما ازداد تمسك الإنسان بالقديم ازداد التحدب حتى ينهار التاريخ، ويتخلف الإنسان، ويلفظ أنفاسه خارج المسار، ويتحول إلى كائن من الحفريات يعيش في طي النسيان. ثم يزداد الأمر سوءا بتدخل التعصب؛ نظرا لغياب العائل والحس والاتصال المباشر بالواقع؛ فتقع الفتن ويحدث الشقاق. قد تكون النشأة الاجتماعية على دين الأسلاف نقطة البداية، ولكنها لا تكون نقطة النهاية بالضرورة؛ نظرا لتطور الوعي ونضج الإنسان وإدراكه لما يحيط به من أمور، وما يأخذه من مواقف. فالحياة تسير نحو الأفضل. إن تقليد السلف هو قول بتكافؤ الأدلة؛ نظرا لاختلاف أقوال السلف وعدم وجود مقياس للاختيار بينها أو للتحقق من صدق أحدهما. وقد رفض القدماء تقليد السلف بحجة جدلية تقوم على القسمة لمصدر التقليد، الله أو الرسول أو العقل، والمصادر الثلاثة تحرم التقليد، بنص القرآن، وبنص الحديث، وبنظر العقل. حتى إذا صعب على الإنسان الحصول على اليقين النظري فهناك اليقين العملي؛ يقين السلوك القائم على الطبيعة والصالح العام. التقليد إذن ضد العقل النظري وضد العقل العملي على السواء. والإنسان قادر بعقله وبعمله الصالح أن يسير وفقا لهداه.
23
التقليد ضد الفطرة، وإنكار لمعطياتها من حقائق وعلوم. والوحي فطري في الإنسان، حتى العامي يدركه بنفسه دون نظر، ببداهة الحس، وأوليات العقل، ومعطيات الوجدان. تقليد العامي إذن إنكار لفطرته حتى ولو لم يستطع استعمال مصطلحات العلماء. يمكنه أن يعبر تلقائيا عن تصوره للحياة دون تقليد للغير. المعرفة إذن طبيعية، سواء الفطرية منها أو الاستدلالية. والتفكير أي طلب الدليل فطري في الإنسان، سواء من بلغته الرسالة أو لم تبلغه. تقوم الرسالة على العقل، والعقل قائم في الإنسان قبل أن تأتي الرسالة. الاستدلال إذن فرض كفاية على من لم تبلغه الرسالة وفرض عين على من بلغته؛ لذلك جعل بعض القدماء موضوع التقليد لفظيا خالصا؛ لأن جميع الناس لا تعرف عن طريق التقليد، بل عن طريق النظر والاستدلال.
24
وتحريم التقليد ينطبق على كل الموضوعات، لا فرق بين دينية ودنيوية، بل من حيث هو موقف في الحياة نظري أو عملي لأنه مجرد تبعية واعتقاد جازم بلا دليل. وخطورته في أن المقلد لا يرجع عن تقليده حتى ولو رجع العالم بعد إعماله النظر. تحريم التقليد إذن عام وشامل بصرف النظر عن المقلد، سواء كان فردا أم جماعة، بل لقد تجرأ القدماء، وحرموا تقليد الرسول باعتباره فردا. أما إذا كان التقليد اتباعا لدلالة فإنه لا يكون تقليدا؛ لذلك قبل بعض القدماء تقليد القرآن والسنة القطعية باعتبارها قطعية الدلالة، ولو أن ذلك أيضا خاضع لقواعد اللغة والتفسير. ولا يجوز تقليد الرسول لظهور المعجزة عليه؛ لأن المعجزة ليست دليلا، بل هي نفسها في حاجة إلى دليل من الحس أو العقل أو الوجدان. التقليد هنا لا يتعدى كونه استرشادا بالتجارب السابقة كقدوة ونموذج، ولكن بعد نظر واستدلال. ومن ثم فإنه لا يكون تقليدا.
صفحة غير معروفة