9
وتغيير الإنسان لوجهة نظره لا يعني تغيير الحق أو إنكار وجود حقيقة ثابتة، بل يعني تغيير الظروف والأحوال والمادة وتقييم الحكم طبقا للأدلة الجديدة، وذلك على مستوى تعين المبدأ في الواقع وليس على مستوى المبدأ ذاته. إن كل حكم إنساني هو حكم تقريبي مشروط بدقة البحث وسلامة الإدراك. وقد ينتقل الإنسان من خطأ إلى خطأ حتى يعثر في النهاية على الصواب. ويرجع الخطأ والصواب في الأحكام إلى شمول الحكم واتساعه. الحكم الضيق لا يصدق على واقع أشمل، والحكم الشامل قد لا يصدق على واقع أضيق إذا كان متفردا. قد يكون الانتقال من رأي إلى آخر هو انتقالا من رأي أقل صوابا إلى رأي أكثر صوابا، وهذا الانتقال ذاته إقرار بوجوب الصواب. وطريق الانتقال هو البرهان حتى يتم الوصول إلى اليقين. يمكن إذن الانتقال من رأي إلى آخر بشرط توافر حسن النية؛ إذ ينضج الإنسان مع تقدم العمر، وتصح آراؤه بدقة البحث وتغير المناهج ومستويات التحليل، وربما لاختلاف اللغة والمصطلحات. وذلك طبيعي؛ نظرا لما يحدث في حياة الإنسان من تطور فكري ونضج علمي، ووعي اجتماعي. إن ثبوت الحقائق لا يعني جمودها من حيث الصورة أو المضمون.
10
ولا يعني تفاوت البراهين دقة ووضوحا أنها لا تثبت شيئا، فالناس متفاوتة في الإدراك. ويمكن أن يتضح الخفي، وأن يفصل المجمل، وأن يحكم المتشابه؛ لذلك كان العلم أساسا نظرية في الإيضاح.
11
وإن تفاوت الناس في المدركات الحسية لا يعني انتفاء الحقائق وعدم إمكان معرفتها، فذاك راجع إلى اختلاف دقة الحواس وتفاوت عملها وطريقة تحويلها إلى تصورات ثم أحكام. كما يتوقف على درجة تيقظ الشعور، وهو شرط إدراك الحواس.
12
ويتوقف على حياد الشعور وعدم تحيزه أو خضوعه لهوى أو مصلحة. ولا يضير المعرفة الإنسانية احتمال الخطأ؛ فالخطأ كالصواب طرفان لها. وقد يحدث الخطأ في فهم الوحي وتحويله إلى علوم عقلية أو إنسانية. والمعرفة لا يضيرها البحث ودقة النظر وشدة الخصومة وتوالي الأجيال؛ فتلك مهمة الإنسان وشرفه وعظمته، وقد يكون البحث عن الحق أولى من الحصول عليه.
13
ولا يعني كون البرهان إجماليا العجز عن الإتيان بالبرهان التفصيلي؛ فالعقل قادر على إعطاء أكثر الاستدلالات دقة وتفصيلا. قد يؤدي البرهان الإجمالي إلى التأويل كما تفعل الباطنية، وقد يحدث بعد التصديق وليس قبله. وقد لا يخضع للبحث الدقيق فيكون أقرب إلى التمويه والمغالطة منه إلى البرهان، ولكنه قد يؤدي أيضا إلى العلم إذا امتنع التأويل وكان سابقا على التصديق وخضع لمناهج البحث المحكمة كالسبر والتقسيم.
صفحة غير معروفة