وعندما تغيب نظرية العلم، يبدأ العلم بنظرية الوجود مباشرة؛ أي بتحليل العلم، وهو ما عرف فيما بعد باسم دليل الحدوث، وكأن موضوع المعرفة سابق على الذات العارفة، ويمكن معرفته مباشرة دون ما حاجة مسبقة إلى معرفة وسائل المعرفة أو مناهجها. تلجأ الذات مباشرة دون ما حاجة مسبقة إلى معرفة وسائل المعرفة أو مناهجها. تلجأ الذات مباشرة إلى العالم، موضوع المعرفة دون أن تتساءل كيف تعرف أو كيف تعلم، وقبل أن نجيب على سؤال ماذا تعرف أو ماذا تعلم؟ والحقيقة أن افتراض العلم مسبقا دون رؤية منهجية له مخاطر غير محسوبة العواقب، قد تكون من أسباب خلطنا المعاصر، وتخبيطنا في الواقع دون رؤية أو بصيرة، وكأننا نعيش في عالم الأشياء المصمتة بلا ترشيد أو تعقيل أو تنظير، في عالم لا يحكمه الفكر. فالواقع لا يتحدث عن نفسه، والوجود ليس علما. ولا يقال إن لذلك الغياب، غياب نظرية العلم ، والبدء بالوجود مباشرة دلالة أعمق في جعل الوجود هو المعرفة. والبداية بالوجود هي في حد ذاتها نظرية في المعرفة، وكأن الوجود في العالم هو وجود تنشأ منه المعرفة، والمعرفة تالية على الوجود وليست سابقة عليه.
8
لا يقال ذلك لأن مجتمعاتنا الحالية تحتاج أولا إلى تأسيس النظر، وإعمال العقل، واكتشاف الواقع من حيث هو فكر؛ فمأساتنا هو حضور الأسطورة مكان العلم، والخرافة بدل العقل، والوهم كبديل للنظر، ونحن لم نتعب من عمل العقل بعد ولم نمل منه ولم نر مخاسره ولا مثالبه، فكيف نرفض ما لا نملك؟ وكيف نهدم ما نريد بناءه؟
9
إن العيش في الواقع مباشرة يتم عن طريق العمل والجهد، وهو ما نحن فيه بجهادنا من أجل لقمة العيش، ومحاولتنا للتغلب على الضنك، وصراعنا من أجل البقاء. ويكون ذلك أيضا في حالة الاسترخاء التام أو السعادة القصوى أو اللذة اللحظية بعد عناء الجهد ومشاق العمل، وتأدية الرسالة.
10
إنما المهم هو التنظير والفهم، وإدراك مسار الأمور حتى يكون صراعنا مجديا، قائما على أساس وليس أهوج فرديا انفعاليا، مجرد تعبير عن صرخة الحياة والرغبة في البقاء. ولا يقال إن الاختصار هو المسئول عن غياب نظرية العلم، فالاختصار لا يصل إلى حد القضاء على الأساس المعرفي للوجود وعلى تحليل العقل للواقع وعلى تأسيس العلم. (3) ظهور نظرية العلم كنظرية في المعرفة
تظهر نظرية العلم في المؤلفات المتقدمة مرتبطة بالإلهيات عندما ينقسم العلم إلى علم الخالق وعلم الخلق، العلم القديم والعلم الحادث، العلم الإلهي والعلم الإنساني. وتظهر نظرية العلم منبثقة عن الإلهيات كمولود جديد حتى تأخذ شكلها الكامل المستقل كنظرية في المبادئ أو الأحكام في المؤلفات المتأخرة. وبالتالي يكون كل عود إلى العلم الإلهي رجوعا عن هذا الانبثاق الجديد وإرجاعا للعلم إلى مرحلة ما قبل النشأة والظهور. في حين أنه يمكن تأسيس العلم الإلهي نفسه باعتباره علما إنسانيا، وذلك لأن الوحي قد نزل في زمان معين ومكان محدد، ولدى شعب بعينه، فهمته العقول، وتمثلته الأذهان، وطبقته الإرادات، وحققته الأفعال؛ وبالتالي فهو علم إنساني كما حدث في علم أصول الدين وعلم أصول الفقه خاصة.
11
والعلم الإنساني بتحليلاته الصورية قادر على الحفاظ على صفات العمومية والشمول والموضوعية التي يتصف بها العلم الإلهي، ألا وهو الوحي، كما أنه قادر على صياغة علم صوري خالص يقوم على المبادئ الأولى في لا زمان، وقد أصبحت الإلهيات نفسها جزءا من نظرية العلم، ودخلت ضمن المعرفة الاستدلالية.
صفحة غير معروفة