والحقيقة أننا أردنا الدراسة شاهدا على التراث والتجديد معا، وصورة للماضي والحاضر في آن واحد، وذلك حتى يرى القراء كيف يخرج القديم من الجديد، وكيف يخرج الجديد من القديم، وحتى تكون عونا لكل طالب علم أو قائد أمة. من أراد القديم وجده، ومن أراد الجديد وجده، ومن أراد الاثنين معا وجدهما معا، وقد سبب هذا ربما طولا لا فائدة منه، ولكنه ضروري؛ فالدخول في أعماق التراث هي الخطوة الأولى لاكتشاف الجديد، ولا ينفع مس التراث على نحو سطحي بإشارات عابرة ؛ لأنه موضوع البحث والتحليل. «التراث والتجديد» فيه غناء عن التراث الماضي لأنه يجمع ويعرض التراث كله كشاهد على التحليل وكمصدر له حتى تتم المقارنة بينه وبين الجديد حتى يكون القارئ حكما ويكون قاضيا، وقد تكون هناك عدم دقة في فهم النصوص أو خطأ في فهم التحليلات، ولكن ذلك يحدث في كل بحث، وحتى على افتراض وقوع خطأ في فهم نصف المادة وفي نصف التحليلات يبقى المنهج سليما، ويظل الموقف صحيحا يكشفه النصف الآخر من الفهم والتحليل الصحيحين، قد نتخلى أحيانا عن دقة التعبيرات، ونسقط الفروق الدقيقة عن قصد لأن المقصود ليس البحث عن الدقيقات، بل عن أمهات المشاكل، كيف نشأت؟ وما دلالتها؟ هل تفيد معنى أم أنها تحصيل حاصل؟ هل تعبر عن وقائع أم هي تعبيرات إنشائية خالصة؟ لا تحتوي الدراسة على معلومات، فالمعلومات محفوظة في القديم بوضوح وتمام وكمال، ولكنها تحتوي على تحليلات، وإعادة وضع للمشاكل وضعا صحيحا، وإعادة بناء لها طبقا لروح العصر؛ ولذلك فهي تحتاج إلى مشاركة من القارئ الذي بإمكانه إقامة هذه التحليلات بنفسه، إن وجدها صحيحة وافق واتفق، وإن وجدها مخالفة خالف ورفض؛ وذلك لأن هذه التحليلات تعبر عن حياته وعن موقفه، وعن وجوده في هذا العالم، وعن مساره في حركة التاريخ.
وقد كان القدماء على وعي بالكم، فكثيرا ما كان الدافع على التأليف هي مؤلفات مطولة مسهبة، أو مختصرة مخلة، ثم يأتي المؤلف الجديد لتحديد الكم المتناسب بين التطويل الممل والإيجاز المخل، وفي الغالب لا يتحقق الغرض فالذي يريد الاختصار يطيل، والذي لا يريد التكرار يكرر، وقد يقصد المؤلف التكرار من أجل البيان، أو لأجل حياد العرض أولا ثم صدق النقد ثانيا.
21
ويطيل المؤلف إذا كانت مصنفاته إملاء أو تدوينا من تلميذ أو مريد، ومن ثم يحتاج إلى تلخيص وتركيز، أو إذا كان جامعا لمادة سابقة، فإنه يحتاج إلى تركيز لأن الجمع كثيرا ما يتكرر أو إذا كان جدلا أو تفنيدا أو ردا، وذلك أنه يحتاج إلى إبراز رءوس الموضوعات التي تكون البناء الرئيسي للعلم، قد تكون الإطالة بلا مبرر، مجرد إسهاب، وقد تكون تشويشا على المذهب حتى تفقده أساسه العقلي، وقد يكون الاختصار مخلا بالمذهب غير منصف له ودون تبرير كاف لأسسه العقلية، خاصة لو كان المؤلف من خصومه، فإنه يبخسه حقه، ولكن معظم المؤلفات تركز على ضرورة الاختصار.
22
فهو أكثر قدرة على التعبير عن القصد ومضمون الفكر، وإبراز البناء الكلي الشامل للعلم، وبعد ذلك يمكن ملؤه فيما بعد بأية مادة تحليلية ومن أي عصر.
23
للتطويل عيوب كبيرة؛ إذ إنه يمنع من الاتصال الوجداني بين القارئ والكاتب، ويفقد القارئ حماسه، كما يفقد الكتاب دلالته، وكل كتاب له هدف أو هدفان يتم التركيز عليهما من أجل التعبير عن دعوة العصر وحتى يكون للكتاب فائدة، الإطالة سيحان لهذا التركيز، وطمس لهذه الدعوة؛ ونظرا لأهمية هذا الموضوع، العلم من حيث الكم، تعقد له مسألة خاصة في نهاية الكتاب من أجل التنبيه عليها.
24
ونادرا ما تأتي المصنفات من أجل التطويل، وفي نفس الوقت يضيف البعض منها زيادات؛ إما لمادة قديمة أو لتحليلات من مادة العصر التي ازدهرت وأصبحت جزءا من الثقافة العامة، وغالبا ما يحدث ذلك في الشروح، وإلا فمن أين يأتي الشارح بمادة شرحه إن لم يكن من داخلها عن طريق الشرح اللغوي والعقائدي أو من خارجها عن طريق الزيادات والإضافات من مادة خارجية كلامية أو غير كلامية؟
صفحة غير معروفة