إن علم الكلام لم يؤد في النهاية إلا إلى التعصب والجهل، وإفساد العقائد البسيطة، والدخول في متاهات الفلسفة، لم يؤد علم الكلام إلا إلى إعمال الهوى في النص، وإلى تغيير العقائد والخروج على الشرع. إن الجهل بعلم الكلام علم، والعلم به جهل؛ لأن الجهل به رجوع إلى البديهة وعود إلى مقاصد الوحي، الإنسان والطبيعة، العلم به انحراف عن الإنسان، وقلب لمقاصد الوحي أو ترك للعالم، واستبدال الوقائع بموضوعات جدلية من وضع العقل الجدلي، لم يؤد الكلام إلا لغير غرضه، فإذا كان غرضه الدفاع عن العقيدة وتثبيت الإيمان، فإنه قد أدى إلى إضعاف العقيدة وإلى جعلها أكثر تعرضا للنقد والتجريح، كما أدى إلى ضياع الإيمان كلية بما يروجه العلم من آراء ومذاهب لا ترضي العقل ولا تصلح من الأمور شيئا.
18
ولم يحرمه الفقهاء وحدهم بل تناوله بالنقد والتجريح الحكماء والصوفية؛ فهو علم لا يفيد الذكي، ولا ينتفع به البليد، صعب على العامة لا يمكنهم فهمه ولا ينفع الخاصة الذين فهموه، هو علم بلا جمهور إلا من الخاصة المتحذلقين نظرا، العاجزين عملا، أو من العامة المتشبهين بالخاصة في الحذلقة والادعاء أو في القدرة الوهمية. لا يوجد شيء في هذا العالم إلا ويمكن للعقل أن يرفضه، ويرد عليه، ويفنده؛ فلا هو برهن على صدق الإيمان ولا هو ترك الإيمان بالتسليم خاصة إذا كان من علم الكلام الأشعري.
19
رفضه الحكماء لأنه تفكير نظري بدائي على الدين، ما زال يستعمل لغة الدين الخاصة، وليست لغة الفكر العامة، وما زال يعتمد على الحجج النقلية وليس على الحجج العقلية، ما زال الله فيه ذاتا مشخصة أو مجردة وليس كونا أو عالما، ما زال «ثيولوجيا»، ولم يتحول بعد إلى «أنثروبولوجيا».
20
وقد نقده الصوفية من حيث منهجه الذي يعتمد على الجدل وليس على الرياضة والمجاهدة، ويعتمد على العقل كالفلسفة والأصول وليس على القلب، يستعمل مناهج النظر وليس طريق الذوق، كما نقد الصوفية موضوعه في أنه يتناول كلام الله وليس ذات الله، ويجعل الله تصورا وليس وجودا، منزها وليس مدرك محسوسا، ويقع في النهاية في ثنائية الإنسان والله أو العالم والله دون أن يصل إلى توحيد شامل في أحد صورتي «وحدة الشهود» أم «وحدة الوجود».
21
فليس هناك علم أجمع العلماء على تحريمه أو نقده أو رفضه أكثر من علم الكلام؛ فقد رفض الفقهاء والفلاسفة والصوفية جميعا الاشتغال به لتناوله موضوعات خاطئة، كانت بدعة وفتنة وكفرا، وأفضل رد عليها هو «التوقف عن الحكم»؛ أي إلغاء المشكلة من أساسها، والعودة إلى النص الخام دون التفريع أو التنويع عليه.
22
صفحة غير معروفة