وربما لا يوجد حد آخر للعلم؛ لأنه لا وجود للعلم على هذا النحو القديم، ومع ذلك يمكن وصفه بعد إعادة بنائه وتصحيحه وإعادته من الوضع الزائف القديم إلى الوضع الصحيح الحالي، وتحويله ليس فقط من «علم الله» إلى «علم الإنسان»، فقد لا يكون هذا التقابل معبرا تماما عن جوهر الحضارة التي نشأ فيها هذا العلم، بل من علم «العقائد الدينية» إلى علم «الصراع الاجتماعي»، فهو العلم الذي يتناول العقائد الدينية كموجهات لسلوك الجماهير اليوم، والتاريخ شاهد على ذلك منذ نشأة الدولة الإسلامية الأولى في المدينة حتى انتصار الثورة الإسلامية الكبرى في إيران - من أجل المساهمة في حل قضاياهم المصيرية مثل الاحتلال، والقهر، والتخلف، والفقر، والتغريب، وسلبية الجماهير. هو العلم الذي يضع الأسس النظرية لسلوك الأمة الفردي والجماعي في مرحلة تاريخية محددة، وهي المرحلة التاريخية الحالية التي يعيشها جيلنا، فالجماهير ما زالت مؤمنة، تراثية، عقائدية، ولكنها في نفس الوقت في وضع احتلال وقهر وفقر وتجزئة وتخلف وتغريب ولامبالاة، جربت مناهج التغيير الاجتماعي والأيديولوجيات العلمانية للتحديث، ولكن ظلت قضاياها الرئيسية كما هي لم تحل إن لم تزد صعوبة بعد أن جرب التغيير بواسطة القديم، وجرب التغيير بواسطة الجديد كما جرب التغيير بواسطة التوفيق بين القديم والجديد، وكانت النتيجة إما تقوقع القديم في الجماعات الإسلامية الغاضبة، أو تقوقع الجديد في الجماعات السرية المنتشرة أو انتهاء التوفيق إلى ردة ونفاق واستعمال القديم المتخلف كستار للجديد العميل.
4 (2) وضع تعريف جديد
كما يلاحظ على هذا الحد القديم «العلم بالعقائد الدينية عن الأدلة اليقينية»؛ أنه خال من أي تحديد لمضمون هذه العقائد الدينية، فإذا كانت العقيدة تعني التوحيد؛ أي نظرية في «ذات» الله فقد يكون ذلك متفقا مع ظروف نشأة العلم القديمة؛ حيث كان التوحيد النظري بهذا المعنى موضع الأخطار، ومظان الطعان بعد أن انتصر «التوحيد العملي» على الأرض وفتحت البلدان عندما أراد الأعداء النفاذ إلى مصدر القوة الجديدة وهي العقيدة، ثم انتصر التوحيد النظري وظهر التنزيه ممثلا في نظرية الذات والصفات والأفعال، وتم إثبات وجود الصانع بالعقل، والبرهنة على صفاته الكاملة، كما تم إثبات النبوة وإمكانها وصدقها، ثم تحول علم التوحيد من الدفاع إلى الهجوم، فأثبت وجوه الخطأ في النقل في الكتب المقدسة في الملل الأخرى، ونقد التجسد والتثليث، وبين خطأ الشرك، وأخطاء الممارسات العملية للكهان والأحبار.
5
ولما أصبحت المباحث الفلسفية العامة هي الأسس النظرية لعلم التوحيد بعد أن توقفت في علوم الحكمة، وتسربت إليه، استطاع العلم أن يقضي على آخر ما تبقى من تشبيه وفكر ديني تقليدي أو كاد حتى لم تعد الإلهيات والسمعيات أكثر من ربع العلم، واحتوت المقدمات النظرية الخالصة ثلاثة أرباعه،
6
أما اليوم فقد تغيرت مواطن الخطر ومظان الطعان، وتحولت من ذات الله وصفاته وأفعاله إلى أراضي المسلمين وثرواتهم، حرياتهم وهويتهم، ثقافتهم ووحدتهم، قد تتحول أيضا المقدمات النظرية العامة من نظرية في العلم يغلب عليها الاستدلال ونظرية في الوجود يغلب عليها مبحث الجواهر والأعراض إلى مقدمات نظرية أخرى بها نظرية في العلم يغلب عليها الرؤية المباشرة للواقع والإحصاء الدقيق لمكوناته، ونظرية للوجود يغلب عليها تحليل الوجود الإنساني الاجتماعي ومفاهيمه الرئيسية، مثل الحرية والعدالة والديموقراطية والتقدم والتحرر والنهضة، لقد تغير الواقع الاجتماعي والسياسي كلية عند القدماء وعندنا، وتحول من دولة منتصرة قديما وإمبراطورية مترامية الأطراف إلى دولة محتلة حديثا متجزئة متخلفة تتكالب عليها الدول العظمى كما الأكلة على قصعتها للقضاء على استقلالها، ونهب ثرواتها، ومنع وحدتها، وتشتيت شملها، وإيقاف تقدمها، وإجهاض نهضتها.
7
ولما كانت أوضاع الناس الاجتماعية هي أساس الواقع، وكان الواقع أساسا هي الأوضاع الاجتماعية للناس، فإن الأمور العامة القديمة (الواحد والكثير، الماهية والوجود، العلة والمعلول، الوجود والعدم، الوجوب والإمكان، القدم والحدوث ... إلخ) بالنسبة لنا هي المفاهيم الحديثة التي تؤثر في عقول الشباب، مفاهيم الحرية والتقدم والمساواة، والإنسان والمجتمع والتاريخ، والواقع الماضي المهاجم فكرا والمنتصر واقعا عند القدماء هو بالنسبة لنا الواقع الحالي المهاجم أرضا والمهزوم واقعا، وإذا كان العقل عند القدماء أساس نظرية العلم فإن الوعي عندنا هو شرطها، وإذا كان الوجود عند القدماء هو الوجود الطبيعي أو الميتافيزيقي، فإن الوجود عندنا هو الوجود الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للأمة، أحوال المسلمين ومصائرهم، ثرواتهم وأراضيهم، وحدتهم وقوتهم، وهو ما فكر فيه المصلحون من قبل، وما حاوله الضباط الأحرار من بعد.
8
صفحة غير معروفة