من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية

حسن حنفي ت. 1443 هجري
151

من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية

تصانيف

وقد جعل ذلك مهمة المفسر الدفاع عن حقوق «الله» مصدر النص دون حقوق الإنسان. نصب نفسه مدافعا عن حقوق الله ناسيا حقوقه هو كإنسان وغير عالم بأن الدفاع عن حقوق «الله» ليس من مهمته، وبأن الدفاع عن حقوق الإنسان هو في نفس الوقت دفاع عن حقوق «الله»، وأن إثبات حقوق «الله» دون إثبات حقوق الإنسان هو في حد ذاته إنكار لحقوق «الله»؛ إذ لا تثبت حقوق «الله»، وفيها إنكار لحقوق الإنسان.

ويصطدم الدليل النقلي بمشاكل اللغة والتفسير والفهم؛ فالنص ليس حجة عقلية بديهية، بل هو خاضع لقواعد التفسير ولأصول الفهم ولشروط الإدراك، النص بذاته ليس حجة بل هو مقروء ومفهوم ومفسر ومحول إلى فكرة في زمان محدد أو مكان معين. لا يكون الدليل النقلي دالا إلا بعد المواضعة، ومن جهة المعنى المستخرج من المنطق ظهرت اللغة كأحد مكونات الفكر، وظهر الدليل اللغوي دالا من جهة المواطأة على معاني الكلام. والدلالة اللفظية لا تفيد اليقين في علم أصول الدين على عكس ما قد تفيده في علم أصول الفقه. ومن ثم فالدلائل النقلية كلها لا تفيد اليقين؛ نظرا لاعتمادها على اللغات. ولما كان الدليل مكتوبا فقد ظهرت الرموز والحروف كأحد مكونات الدليل.

9

كما يرتبط الفهم بمعرفة قواعد التفسير، سواء في منطق الألفاظ مثل الحقيقة والمجاز، والظاهر والمؤول، والمجمل والمبين، والمحكم والمتشابه، والمطلق والمقيد، إلى آخر ما وضعه علماء أصول الفقه. ويساعد ذلك منطق السياق من فحوى الخطاب ولحن الخطاب، وصلة النص بالواقع في «أسباب النزول» و«الناسخ والمنسوخ». وبالتالي فإن الحجج النقلية كلها ظنية حتى لو تضافرت وأجمعت على شيء أنه حق؛ لم يثبت أنه كذلك إلا بالعقل ولو بحجة عقلية واحدة، وذلك لاعتمادها على اللغة والرواية والأقيسة ولاحتمال وجود المعارض العقلي. ولا تتحول إلى يقين إلا بقرائن من الحس والمشاهدة. والقرائن الحسية ليست فقط تدعيما للحجة النقلية بل للحجة العقلية كذلك. فالواقع أساس النقل والعقل على السواء.

10

يبدأ الدليل النقلي من خارج العقل وتكون وظيفة العقل مجرد الفهم في أحسن الحالات أو التبرير في أسوأ الحالات. الدليل النقلي إذن يقضي على وظيفة العقل في تحليل الوقائع وعلى طبيعته المستقلة. وكيف يكون العقل وسيلة للمعرفة ويبدأ الدليل النقلي؟ وكيف يبدأ الدليل النقلي وحجته لم تعلم إلا بالدليل العقلي؟ وكيف إذا تعارض العقل والنقل فمن الحكم؟ لا يكون إلا العقل. وكيف إذا تعارض النقل والعقل؟ يكون إثبات العقل وتأويل النقل، فالعقل أساس النقل. إن النص لا يثبت شيئا، بل هو في حاجة إلى إثبات، في حين لا يقف شيء غامض أمام العقل، فالعقل قادر على إثبات كل شيء أمامه أو نفيه. لا مفر إذن من البداية بالدليل العقلي، فالعقل أساس النقل. وكون النقل حجة بداية عقلية.

11

إن النقل لا يعطي إلا افتراضات يمكن التحقق من صدقها في العقل ومن صحتها في الواقع، كما يعطي حدوسا يمكن البرهنة على صدقها بالعقل وعلى صحتها في التجارب اليومية، ويكون المحك في النهاية العقل والواقع. العقل وحده وسيلة التخاطب، والواقع وحده هو القدر المشترك الذي يراه جميع الناس، فالاستدلال العقلي والإحصاء الاستقرائي دعامتا اليقين.

وكلما تطور علم الكلام قل اعتماده على النص وزاد اعتماده على العقل، كما حدث بعد القرن السادس عندما اعتمد اعتمادا كليا على العقل حتى أصبح وريثا لعلوم الحكمة مستمدا مادته ومنهجه ونظريته في العلم ومصطلحاته منها. وكأن نقد علوم الحكمة في القرن الخامس والدعوة إلى التصوف أدى إلى هروب الحكمة، فتلقفها التوحيد في علم الكلام المتأخر ثم تلقفها التصوف في القرنين السادس والسابع في التصوف الإلهي. وقد كان هذا الاعتماد وقتيا لأن علم التوحيد اعتمد فيما بعد على أصول الفقه وعلى علوم التصوف. وكما اختلطت مقدماته من قبل بالمنطق والحكمة فقد اختلطت فيما بعد بأصول الفقه وبالتصوف.

12

صفحة غير معروفة