ليس أول الواجبات وظيفة الوقت كصلاة ضاق وقتها فتقدم. هذا واجب عملي يسبقه واجب نظري وهو الإحساس بالزمان. وهذا لا يأتي إلا بالنظر الذي يكشف للإنسان تحمله للرسالة. تقوم الواجبات العملية على الواجبات النظرية. ولما كان علم أصول الدين يهدف إلى تأسيس النظر، في حين أن علم أصول الفقه يهدف إلى تأسيس العمل، فإن جعل وظيفة الوقت الضيق أول الواجبات هو تأسيس العمل قبل تأسيس النظر. أما إذا كان المقصود هو الشعور الداخلي بالزمان، والشعور بالذات من حيث هي وجود في الزمان فإننا نتجه بالأفعال الخارجية للشعور إلى الأفعال الداخلية، ونكون أقرب إلى المقدمات منا إلى النتائج. وإذا كانت مأساتنا في البلاد النامية عدم الإحساس بقيمة الزمان وعدم إحساسنا بالتاريخ، وضياعنا للحاضر في سبيل الماضي العريق أو المستقبل البعيد في الدنيا أو خارجها قد يكون في اعتبار الإحساس بالوقت الضيق كأول الواجبات نفع وصلاح. ويكون في هذه الحالة مقدمة للنظر، وشرطا للمعرفة. وإذا كان المقصود بالصلاة هو الإتيان بفعل الوقت، وكانت مأساتنا في تأجيل الأفعال إلى الغد، فإن اعتبار الفعل في الوقت أو وقت الفعل أول الواجبات فيه أيضا خير وصلاح لما نحن فيه.
34
ليس أول الواجبات النطق بالشهادتين؛ فالنطق حركة للشفاه وراءها معنى في الذهن، وشعور في الوجدان، وتصور للعالم، وفعل في الواقع. حركة الشفاه ما هي إلا ظاهر لشيء آخر خفي هو ما وراءها من معان وتصورات ومتطلبات وبواعث ومقاصد. ولا يمكن للمكلف أن ينطق بالشهادتين دون أن يعي معناهما أو يتمثل تصوراتهما أو يفعل بمقتضاهما أو يتحرك ببواعثهما أو يتجه نحو مقاصدهما وإلا لحولنا التكليف إلى مجرد حركات باللسان وتمتمات بالشفاه كما هو الحال في هذه الأيام لدى الحاكم والمحكوم. ليس الإقرار بالشهادتين أول الواجبات على المكلف؛ فذلك هو الوضع في علم أصول الفقه وهذا هو موقف الفقهاء . أما في علم أصول الدين، فأول الواجبات هو النظر لأن النطق بالشهادتين ينبني على معرفة «الله» والتسليم بوجوده والإيمان بالرسول - بعد تأسيس نظرية العلم - وذلك لا يتم إلا بعد حدوث تحول في الشعور واعتقاد بالنظر. وإذا كنا نعاني في حياتنا المعاصرة من كثرة التمتمات، وحركات اللسان والشفاه دون أن نعي ما نقول أو نحقق متطلباته؛ فإن جعل النطق بالشهادتين أول الواجبات لا يؤدي إلى نفع أو صلاح، بل يثبت الأمر الواقع ويشرع لما هو موجود. فإذا كان الجواب الأول عن أول الواجبات عملا فإن الجواب الثاني قول. وكثيرا ما صاحت حركتنا الإصلاحية الأخيرة: «ما أكثر القول وأقل العمل!»
35
ليس أول الواجبات هو الإيمان؛ لأن الإيمان وضع داخلي للشعور يقوم على أساس النظر في موضوع الإيمان. النظر سابق على الإيمان، بل إن علم أصول الدين كله يهدف إلى تأسيس الإيمان على النظر. وإذا كنا في مجتمعات مؤمنة، تعطي الأولوية للإيمان على النظر، فإن اعتبار الإيمان أول الواجبات يثبت الأمر الواقع، ولا يحقق أي نفع أو صلاح. وقد تم اختيار الإيمان أول الواجبات في القرون الأخيرة في فترات التخلف والتوقف والانهيار كدعوة صريحة إلى التسليم وإغفال النظر كمقدمة إلى التسليم للسلطة السياسية وإسقاط المعارضة. بل إن مضمون الإيمان مضمون غيبي خالص حتى يقضي على أية فرصة للنظر والتصديق والتحقق في الواقع من صحة هذا المضمون، والتسليم الخالص دون مراجعة أو بيان أو حتى طلب دليل أو برهان. ولو ظهر فإنه يكون مقدمة للتسليم، وليس مراجعة له، وبابا يدخل منه الإيمان، وليس وسيلة للتحقق من صدقه.
ليس أول الواجبات هو الإسلام؛ لأن المكلف لا يؤمن بالإسلام إلا بعد النظر وتدبر وإعمال للعقل والروية، وإلا كان إسلاما عن طريق العادة والتقليد. يتطلب الإسلام المعرفة به؛ فالمعرفة سابقة على الإسلام، والمعرفة لا تتم إلا بالنظر؛ فالنظر سابق على المعرفة. وإذا كنا نعيش في عصر يغلب على الجميع فيه الإسلام عن طريق العادة أو التقليد، فإن جعل الإسلام أول الواجبات تثبيت للوضع القائم على ما هو عليه دون تغييره إلى ما هو أفضل.
ليس التقليد هو أول الواجبات، فالتقليد من مضادات العلم وليس من طرقه. ولما كان النظر طريق العلم كان أول الواجبات. بل إن النظر يأتي دائما معارضا للتقليد، ونقدا للموروث، ومراجعة للمسلمات. التقليد اعتقاد جازم مطابق لا عن سبب طبقا للعادة أو للموروث، وكلاهما خارج النظر؛ لذلك جعل علماء أصول الدين المقلد عاصيا آثما. يستحيل إذن أن يكون التقليد أول الواجبات، بل هو أول المحرمات؛ لأنه نفي للنظر، والنظر أول الواجبات.
36
ليس الاختيار بين التقليد والمعرفة أول الواجبات؛ إذ كيف يتم الاختيار بين نقيضين، ويكون كلاهما صحيحين في آن واحد؟ المعرفة ضد التقليد، والتقليد ضد المعرفة. ولما كان التقليد نفيا لعلم أصول الدين الذي يهدف إلى تأسيس العلم، وكان المقلد عاصيا، إنما كانت المعرفة هي الاختيار الأوحد. ولما كانت المعرفة لا تتم إلا بالنظر كان النظر هو أول الواجبات.
37
صفحة غير معروفة