ليست صلة النظر بالعلم إذن صلة آلية، بمجرد وجود النظر يحصل العلم، بل لا بد من التوليد وهي الحالة الشعورية التي يحصل فيها النظر، ويتولد منها العلم إذا توافرت شروط التوليد. ليس كل من علم قواعد الشعر شاعرا، ولا كل من علم قواعد اللغة كاتبا، يمكن معرفة كيفية التوليد ولو أن ذلك ليس شرطا ضروريا لتوليد النظر العلم. ولكن يستطيع فيلسوف العلم أو مؤسسه وصف أفعال الشعور ويبين كيفية التوليد. قد لا يعلم الشاعر ضرورة كيفية حدوث عملية قرض الشعر، ولكن عالم الفن قادر على ذلك بوصفه لعمليات الخلق الفني. وقد لا يتم هذا الوصف قبل توليد النظر العلم. الوصف هو وصف لشيء. يحدث الشيء أولا ثم يتم وصفه ثانيا. لا يعني ذلك أن النظر لا يولد العلم؛ لأن العلم بكيفية التوليد قد يحصل بعد التوليد ذاته عن طريق الاستبطان، ولكن عدم العلم بكيفية الشعور لا ينفي حدوث التوليد.
20
التوليد إذن هو طريق الحصول على الدلالة بعد النظر في الدليل. الدلالة بداية اليقين واستبعاد مضادات العلم من شك وظن ووهم وجهل وتقليد. ولا تحدث إلا في الشعور اليقظ المنتبه دون شعور النائم والغافل، ولا تقع إلا في الشعور العاقل دون شعور الطفل أو الصبي أو المجنون. لا يعني التوليد ارتباطا عليا بين النظر والعلم دون أي شروط، بل يعني انكشاف الدلالة في الشعور ورؤية الماهية بتوافر الشروط. الشعور خالق للمعاني وواهب للدلالات، يتولد فيه العلم. لا يوجب النظر العلم آليا بل بواسطة الدليل. النظر في الدليل يؤدي إلى العلم بالمدلول، وإذا ما عثر الناظر على المدلول فعليه إعادة النظر حتى يعثر على الدليل؛ فلا مدلول بلا دليل.
21
والتوليد شرط صحة النظر. إذا طال النظر ولم يحدث العلم فإنه يكون حتما قد توجه بعيدا عن الأدلة. ولا يمنع وقوع الشبهات في النظر نفي التوليد؛ فالشبهات تجيء وتذهب، والناظر قادر على التمييز بين الشبهة والدليل، وذلك بسكون النفس إلى الدليل وطردها للشبهة. كما تنبه الدواعي والخواطر على صحة النظر وتوليده للعلم. إن الوعي الدائم بوجوب النظر يولد العلم ضرورة بالحدس أو الاستدلال. ولا يؤدي عدم النظر إلى الجهل؛ لأن عدم النظر ليس فعلا بل ترك، والترك لا يتحول إلى فعل. كما لا يولد النظر الشبهات؛ فالتوليد طريق العلم ونفي الجهل عن طريق الدلالة، والدلالة محو للشبهة ولا يتضمن بالضرورة توجيه الشك والظن ؛ فالجهل عدم العلم، وهو إدراك العلم ابتداء ولو بطريق النفي، والشك لا يولد العلم. ولا يعني احتمال أن يؤدي إلى جهل انتفاء النظر؛ فالنظر لا يولد الجهل لأن الجهل اعتقاد جازم غير مطابق يحدث من غير نظر، بل لمجرد الاعتقاد، وهو ضد العلم.
22
وهناك فرق بين العلم الضروري في التوليد والعلم الضروري في الإلهام. يتم العلم الأول بأفعال الشعور الداخلية بعد النظر، في حين أن الثاني يحدث بالإلهام الناتج عن الطبيعة دون نظر. ويتم الأول بطريقة الرؤية والحصول على الأدلة، في حين يتم الثاني فجأة وبلا مقدمات ودون حاجة إلى دليل. ويمكن مراجعة الأول والتحقق من صدقه، في حين لا يمكن مراجعة الثاني أو التحقق من صدقه، بل يكون تعبيرا عن طبيعة، ويكون صدقه مرهونا باطراد الطبيعة.
23 (2) شروط النظر
لا يحدث النظر إلا بشروط هي نفسها شروط العلم؛ من حياة ويقظة وانتباه ونظر. فالحياة شرط العلم لأن العلم حالة للشعور.
24
صفحة غير معروفة