13
وإن حاجة الناس إلى المعلمين في العلوم العويصة لا يمنع من وجوب النظر. فمهما أوتي المعلم من مهارة دون نظر من المتعلم فلن يحدث العلم، ولن يتعدى العلم التقليد دون الفهم، والنقل دون الإبداع، والحفظ دون الاجتهاد. إن الخلاف في النظر لا يقدح فيه؛ لأن هناك مقاييس للصواب والخطأ. كما أن الخلاف بين المعلمين لا يقل شأنا عن الخلاف بين النظار خاصة وأنه لا توجد مقاييس للاختيار بين المعلمين إلا التقليد. إن الخلاف في النظر سواء كان في أسهل الأمور أم أصعبها لا يدحض النظر؛ لأن النظر الصحيح لا يؤدي إلى الخلاف. والبرهان قادر على حسم التعارض بين الآراء والتمييز فيها بين الصواب والخطأ، وصعوبة النظر لا تنفي النظر. يمكن للمعلم أن يزيح بعض أسباب الشكوك وأن يوضح بعض جوانب الصعوبة ولكنه لا يعلم من الألف إلى الياء وإلا كان الإنسان مجرد متلق للعلم. ومن أين يأتي علم المعلم؟ لا يأتي من وحي خاص؛ فذاك طريق النبوة، ولا من تفسير الوحي؛ فذاك مشاع للجميع بالعلم بقواعد اللغة وأسباب النزول، ولا من الإلهام؛ فذلك ليس طريقا للعلم. لم يبق إلا النقل والتقليد والوراثة وهو ما يغيب عنه التحقق من صدقه. والعلم بلا نظرية في التحقق أو الصدق لا يكون علما. صحيح أن النظر وحده قد لا يكون نجاة، ولا بد من معلم عملي يهدي ويرشد. ولكن النظر ليس هو النظر الخالص، بل هو مقدمة للعمل، فالعمل جزء من النظر. وكان كبار معلمي الإنسانية من النظار الذين يوحدون بين النظر والعمل.
14
قد يكون المعلم عاملا مساعدا على النظر ولكنه لا يكون بديلا عنه وإلغاء له. التعليم أقرب إلى الإرشاد والتوجيه نحو الحقائق منه إلى إعطاء هذه الحقائق نفسها. مهمته مساعدة الإنسان على كشف الحقائق بنفسه دون أن يعطيها له جاهزة بالتلقين. وقد يكون ما نعاني منه في مناهج تعليمنا وتربيتنا من تلقين وفرض للوصايا على العقول من آثار هذا التصور للمعلم مع أنه ليس هو التصور «السني».
15
ولكن يبدو أن طبيعة المجتمع المتخلف تتفق مع هذا التصور «الشيعي التاريخي» الذي كانت له ظروفه الخاصة في مجتمع المضطهدين. إن اتباع الإمام في كل ملة فيما يتعلق بنظرية العلم كبديل عن النظر لدليل على التخلف، ويمثل التيار المحافظ الموجود في كل جماعة. وكلما جهلت الجماعة قوى احتمال ظهور المعلم، تظهر وظيفة المعلم في جماعة تقسم أفرادها بين الدهماء الجاهلة والمعلم الواحد الملهم المعصوم، الرئيس القائد الزعيم المجاهد. وقد تسرب هذا التصور أيضا إلى علوم الحكمة من الفكر «الشيعي التاريخي». فهو أقرب إلى الإمام المعصوم من الولاية العامة في الفكر «السني النمطي». وقد تتقدم المجتمعات «السنية» تاريخيا برفض سلطة الإمام المعصوم الذي يظهر في صورة رئيس ملهم، ورفع الوصايا النظرية والعملية عن الناس كما حدث في كثير من حركات الإصلاح الديني في كل الديانات والملل. إن طاعة الناس للقائد الإمام ليس لأنه معلم معصوم، بل لأنه يمثل قيادة ثورية تقود نضال الشعوب، وتعبر عن مصالح الجماهير، وتحقق أهدافها القومية. اتباع المعلم أو الإمام المعصوم تقليد، وتعويض عن غياب اليقين بالتبعية، واستبدال اليقين الداخلي؛ يقين التصديق، بيقين خارجي؛ يقين الاتباع، وبالتالي ترك النظر والبحث إلى الطاعة والتبعية، وهو ما تقوم عليه كل أنظمة الحكم التسلطية باسم السلطة الدينية تدعيما للسلطة السياسية. إن التقليد بين مضادات العلم مثل الجهل، وليس أساسا لنظرية في العلم؛ يؤدي إلى التهلكة إذا ما أخطأ المعلم ما دام لا توجد مراجعة عليه. ولا يبقى أمام الناس إلا الثورة عليه، والانقلاب من الطاعة المطلقة إلى العصيان المطلق. أما النظر، فإنه طريق النقد وبالتالي سبيل التحرر، على عكس المعلم الذي يؤدي إلى التسليم والقبول ثم إلى الطاعة والإذعان.
16 (د)
أما أصحاب الإلهام مثل الصوفية، فإنهم ينكرون أيضا أن يكون النظر مفيدا للعلم، ويجعلون الإلهام طريقا للمعرفة، ويعنون به فيض المعرفة على القلب دون إعمال نظر أو تدبر أو روية. ولم يظهر في علم أصول الدين إلا مؤخرا عندما ازدوجت الأشعرية بالتصوف؛ نظرا لتوحيد بعض العلماء المتأخرين بين العلم والمعرفة.
17
والحقيقة أن الإلهام قول بلا برهان، وذاتية خالصة فارغة لا تعتمد على أوائل العقول بل على نقائضها، كما لا يمكن التعبير عنه أو البرهنة عليه أو إيصاله إلى الآخرين أو التحقق من صدقه أو مراجعته وتكراره واطراده. يمكن اعتبار ما يأتي من الإلهام على أقصى تقدير مجرد افتراض يمكن التحقق من صحته بالبرهان عن طريق النظر؛ لذلك فنده القدماء بحجة جدلية مؤداها أنه لا يمكن معرفة الإلهام بالإلهام وإلا تسلسل ذلك إلى ما لا نهاية، وهي نفس الحجة الموجهة ضد المعلم. لا يعرف الإلهام إلا بالنظر وذلك إثبات للنظر طريقا للعلم. ولما كان الإلهام كل ما يفيض على القلب دون نظر أو رؤية، فهل كل ما يحدث في قلب الإنسان من جحود وإنكار للحقائق وخيانة وعمالة وبيع للبلاد يكون إلهاما؟ وبالتالي يؤدي الإلهام إلى إنكار الحقائق بدلا من إثباتها، وأن كثيرا مما أصابنا من شكوك في مبادئنا الوطنية ومشروعنا القومي إنما حدث نتيجة لدعاة الإلهام والأنوار الربانية في الوادي المقدس، وأثناء الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان أو فوق قمم الجبال بالقرب من السماء، وهو حتما خداع في خداع. فكثيرا ما تتم الحوادث بالزيارات والترتيبات والتنسيق والتدبير بالفعل، ويكون الإلهام آنذاك أشبه بالسحر الذي يخفي الحقائق الفعلية من أمام المشاهدين وأن وجود الشك والتردد والظن في حياة الإنسان ليمنع من الإلهام لأن الإلهام لا يأتي إلا بالصواب فهو اعتقاد جازم ويقين ثابت أقرب إلى مضادات العلم منه إلى العلم. وإذا كان الإنسان قادرا على التمييز بين الخطأ والصواب في المعتقدات، فإنها لا تكون إلهاما يقذفه «الله» في القلب، لا يقف أمامه تريث أو رؤية أو قدرة على التمييز بين الأشياء. وإذا بطلت بعض المعتقدات مثل التجسيم والتشبيه فإنها لا تكون إلهاما؛ لأن الإلهام لا يأتي إلا بالصواب طبقا لمدعيه. يصعب إذن التمييز بين الإيهام والإلهام، وإن ارتداد الإنسان كلية عن موقف إلى موقف مناقض أو ترجيح أحدهما على الآخر لا يمكن أن يحدث بالإلهام؛ لأن الإلهام لا يتغير في حقائقه المعطاة. ولما كان الإلهام يأتي من أعلى فإنه يجعل الإنسان مجتث الجذور في الواقع؛ إذ يجعل مصدر معرفته خارج العالم، وبالتالي يعمى عن الواقع وعما يحدث فيه، ويعيش الإنسان مغتربا في العالم، نافيا وجوده، ومصدر علمه، جاهلا بقوانينه. أما استعمال العقل فإنه عود إلى الواقع واكتشاف لقوانينه، واستعمال لمنهج التحليل والمراجعة والإحصاء. وهذا ما يحدث في حياتنا المعاصرة التي يسودها الإلهام كمصدر رئيسي للمعرفة إن لم يكن مصدرها الأول حتى في قمة السلطة السياسية التي بيدها قرار السلم والحرب والتي عليها مهمة تحرير الأرض. وهو أقرب إلى الارتجال والعشوائية ونقص العلم وادعاء البطولة منه إلى الإلهام الشعري أو الصوفي. بل يوجد الإلهام عند كل صاحب إمارة وعند كل رئيس مصلحة. وهنا يكون الإلهام تعويضا عن نقص في المعرفة أو رغبة في التسلط على رقاب الناس. إن رفض الإلهام كطريق للمعرفة ووسيلة للعلم وبديل عن النظر هو في نفس الوقت استمرار لموقف القدماء وتأكيد على ضرورة النظر في حياتنا المعاصرة درءا لأخطار والوهم والإيهام - ورفضا لكل الوصايا النظرية والعملية عن الجماهير، وإنهاء لتبعيتها لغيرها وردها إلى ذاتها، وأخذها لمصائرها بيدها. وعلى هذا النحو تعود الجماهير إلى الوحي الذي يقوم على النظر، ويكون الوحي قد عاد إليها، وهي القادرة على النظر فيه.
صفحة غير معروفة