لذلك وجب قتال البغاة باعتبارهم أعداء للأمة، مثلهم مثل الكفار. قد يتبع من يولي منهم، ويجهز على جرحاهم أو تغنم أموالهم، وقد يغنم ما في عسكرهم فقط دون أتباعهم الذين لا يقاتلون. وقد يقتلون غيلة إذا كان في ذلك خلاص الأمة لدرجة شهادة الزور عليهم واستباحة نسائهم، وقد لا يقتلون إلا نزالا ومواجهة وقتالا. وقد لا يدفن قتلاهم أو يكفنون أو يصلى عليهم، وقد يدفنون ويكفنون ويصلى عليهم. إلى هذا الحد وصل قتال البغاة.
11
ويتجاوز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر داخل الأمة إلى خارجها، ويلحقان بجهاد الكفار. والجهاد قسمان: جهاد بالدعوة إلى الدين، مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقلب وباللسان؛ وجهاد بالسيف، مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد. فالدعوة إلى الإسلام تسبق القتال، وواجبة قبل النزال، حتى تستسلم الأمم فتقبل الإسلام، أو تعلن الاستسلام وتكون أمة مستقلة داخل الأمة الكبرى تتعاون معها على البر والتقوى دون الإثم والعدوان. والجهاد بهذا المعنى فرض عين لا فرض كفاية، كل حسب طاقته ووسعه، جهادا بالقلم أو جهادا بالسيف. ولا جهاد قبل تبليغ الدعوة وبلوغ الإسلام إلى الناس، وتقام عليهم الحجة، فإن قوتلوا قبل ذلك وقتلوا وجبت الدية لديهم. الجهاد حركة في الخارج وليس عكوفا على الباطن، وانتشار في العالم وليس انقلابا للداخل، ثورة في الواقع وليس مجرد تغير في الروح المجرد الفارغ من أي مضمون.
أما الجهاد مع أصحاب المذاهب والفرق المخالفة في الرأي فلا يكون إلا بالحجاج حتى ينصر الرأي ويظهر الحق، «أشداء على الكفار، رحماء بينهم».
12 (2) متى تجوز طاعة الإمام ومتى يجوز خلعه أو الخروج عليه؟
ما دام الإمام قد تمت بيعته بناء على اختيار وعقد فإنه يكون مطاعا، وطالما التزم بشروط البيعة من طرفه التزمت الأمة بشروط العقد من طرفها؛ من جانبه تنفيذ الشريعة وتطبيق أحكامها، ومن جانبها الطاعة له. فطاعة الأمة للإمام ليست مطلقة، بل مشروطة بتنفيذ شروط العقد، والعقد شريعة المتعاقدين، فإذا ما نقض الإمام البيعة فإنه يكون قد نقض العهود والمواثيق التي أخذتها الأمة عليه، ويكون نقضه للبيعة بجوره وظلمه وبغيه أو بعدم تنفيذ أحكام الشريعة. وفي هذه الحال يتم خلعه؛ أي سحب البيعة وإعادة الاختيار وفسخ العقد. فإن لم ينخلع على طلب من الأمة أو يخلع نفسه، فإنه يجوز الخروج عليه ومقاتلته بالسيف بناء على ضرورة قتال أهل البغي وفساق الأئمة. (2-1) طاعة الإمام
إذا كانت طاعة الإمام مشروطة غير مطلقة، فإنها لا تجوز إلا في حالة التزام الإمام بعقد البيعة الذي ينص على تطبيق أحكام العدل وتنفيذ الشريعة ومقاتلة الأعداء والذب عن البيضة، ويتطلب ذلك تحقيق مقاصد الشريعة وضرورياتها التي من أجلها وضعت الشريعة ابتداء؛ المحافظة على الدين والنفس والعقل والعرض والمال. وقد يزاد مقصد سادس هو الإنسان الجامع لكل هذه المقاصد. وتستلزم طاعته دفع الزكاة إليه؛ أي إن الالتزام السياسي بالنظام يستلزم التزاما اقتصاديا به. طاعة الإمام إذن لا تجوز على الإطلاق بالرغم من استقرار ذلك في وعينا القومي نظرا لأنه التراث الغالب، والذي استقر بعد أن حسمت الاختيارات في اختيار تراث السلطة، وأصبحت الطاعة من طرف واحد، من طرف الرعية التي تستلزم بالعهود والمواثيق وعقود البيعة والمحافظة على ذمة الله وذمة نبيه وذمة المسلمين، دون أي التزام مقابل من جانب الإمام، حتى لو عصى الإمام وفسق وجار فإن طاعته تظل واجبة! ولا تملك الأمة إلا الدعاء له بالهداية والنصح له بالرشاد، فإن لم يتغير شيء تزداد الدعوات دعوة أخرى، دعوى المظلوم على الظالم، ودعوى الرعية على الإمام، والله مجيب دعوات المظلومين. وتستلزم طاعة الإمام محبته والاقتداء به، بصلاحه تصلح الأمة، وبفساده تفسد الأمة. فالتغيير يأتي من فوق، والأمة مجرد تابع ومقلد لإمامها. العلاقة بين الإمام والرعية إذن علاقة تقليد واتحاد، لا علاقة تمايز واختلاف. ليس أمام الأمة إلا الصبر على جور السلطان وعدم الخروج عليه بالسيف مهما جار وظلم، وطغا وتكبر! بل لا يجوز الخروج عليه حتى ولو فسق وعصى وكفر. يكفي الإمام أن يكون ظاهر الإسلام، مقيم الصلوات، يأتي المساجد، مصلي الجمعة والعيدين!
13
لا ينعزل الإمام بالفسق والجور؛ لأنها شروط في البداية عند عقد البيعة، وليست شروطا في النهاية حين الالتزام بها. وكأن الإمام مخادع كاذب لا يلتزم بالشريعة إلا من أجل البيعة فحسب طمعا في الإمامة، وهو ضد العدل ظاهرا والورع باطنا، وكأنه محتال على الناس ينوي الغدر بهم. والحجة في ذلك هي الواقع التاريخي؛ فقد انصاعت الأمة لأئمة الجور والفسق ولم تخرج عليهم بعد الخلفاء الراشدين؛ مما يدل على أن طاعة أئمة الجور كانت أقرب إلى تبرير الأمر الواقع منها إلى التنظير والتأصيل له. وقد تثار حجة أن عزل الإمام أو الخروج عليه مدعاة لإثارة الفتنة وإحداث الهرج وإضعاف لشوكة الأمة، وهي حجة التسليم بالأمر الواقع والخوف من التغيير، حجة استتباب النظام والأمن في مواجهة قوى التغيير والثورة. وما أكثر الحجج النقلية التي يمكن انتقاؤها لإثبات وجوب طاعة أئمة الجور، وما أكثر الحجج النقلية المضادة لإثبات ضرورة خلعهم أو الخروج عليهم. وطالما استتب الأمن، واستمر أئمة الجور في الحكم، استمر تراثهم النقلي في السيادة والانتشار حتى يصبح هو التراث الوحيد في وعي الأمة. وطالما تضطهد المعارضة وتستبعد من الحياة السياسية العامة، يختفي تراثها ويصبح في طي النسيان. لا يسمح بالعصيان إلا في الحرام والمكروه، مثل ترك الدخان في الأسواق والمقاهي؛ أي في أمور لا تعم بها البلوى ذرا للرماد في العيون، وتملقا لأذواق العامة. أما في الظلم والجور والنهب والسرقة واغتصاب الحقوق، فالطاعة واجبة!
14
صفحة غير معروفة