ويحدد هذا المبدأ العلاقة بين الجماهير والسلطة، بين الأمة والإمام، بعيدا عن التشخيص السياسي وتركيز المشكلة السياسية كلها على شخص الإمام. وهي إحدى أصول خمسة في العقائد يقوم عليها علم التوحيد؛ أي إنه نتيجة طبيعية للأصول الأربعة الأولى، خاصة لأصلي التوحيد والعدل. وقد يصبح موضوعا منفصلا وتفرد له مؤلفات خاصة؛ فالمبدأ يتعلق بالأصول وليس بالفروع.
1
فماذا يعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ هناك أربعة مصطلحات: الأمر، والنهي، والمعروف، والمنكر. فالأمر والنهي مقولتان في علم أصول الفقه، صيغتهما «افعل» و«لا تفعل»، يقتضيان الفعل وعدم الفعل. أما المعروف والمنكر فيفيدان معنى الحسن والقبح العقليين. ويتوجه الأمر والنهي نحو الأفعال وليس نحو الأفكار والآراء؛ أي إنه يخص العمليات والشرعيات لا النظريات. وهو مبدأ للحقوق المدنية تتعلق بالأفعال الظاهرة، ولا يخص توجيه الفكر والحد من حريته.
2
ويبدو النهي عن المنكر أهم بكثير من الأمر بالمعروف طبقا للقاعدة الأصولية أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. ويتضح ذلك من قسمة المعروف والمنكر؛ فقسمة المعروف مقتضبة تتعلق بالصورة دون المضمون؛ إذ إنه ينقسم إلى واجب وما ليس بواجب، فالأمر بالواجب واجب، وبالنافلة نافلة، وبالمندوب مندوب، في حين أن المنكر من حيث الصورة واحد، وهو وجوب النهي عنه عند استيفاء الشروط، لا فرق في ذلك بين صغيرة وكبيرة،
3
ولكن الأهم من ذلك قسمة المنكر من حيث المضمون إلى قسمين؛ الأول: ما يختص به ويقع به الاعتداد، مثل غصب فقير ليس له إلا درهم واحد، وهو منهي عنه عقلا وشرعا؛ لأنه سلب لما يقيم به أوده، ونهب لحد الكفاف منهي عنه عقلا لأنه دفع للضرر، ومنهي عنه شرعا لأن خير أمة أخرجت للناس لا يكون هكذا وضعها في التفاوت بين الأغنياء والفقراء. وما يختص به ولا يقع الاعتداد به، مثل غصب غني له أموال قارون درهما، وهو غير منهي عنه عقلا إن كان منهيا عنه شرعا. ولما كان العقل أساس النقل، فإنه يكون غير منهي عنه. وإن السرقة من الغني أقرب إلى إعادة توزيع الدخل بين الطبقات. والثاني: ما يتعداه، وهو المنهي عنه عقلا وشرعا، ولا يحتاج في ذلك إلى تدبير واجتهاد. فالنهي عن المنكر يتوجه أساسا إلى الأوضاع الاجتماعية التي يحكمها توزيع الدخول وتفاوتها بين الطبقات. وقد ينقسم المنكر إلى قسمين آخرين؛ الأول: ما يتغير حاله بالإكراه ويقع ضرره عليه فقط، مثل سرقة الدرهم من خفير. والثاني: ما لا يتغير حاله بالإكراه ويتعدى الضرر إلى الغير، كسرقة الفقراء ونهب العاملين واستغلالهم وسرقة جهودهم. وقد ينقسم المنكر إلى عقليات كالظلم والكذب، والنهي عنه واجب، وهو أقرب إلى الأمور المعنوية والأخلاقية؛ وإلى الشرعيات، سواء ما كان للاجتهاد فيها مجال أو لم يكن للاجتهاد فيها مجال، وهي الأمور المادية كالسرقة، والنهي عنها أيضا واجب. يتجاوز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مجال الأخلاق الفردية إلى الأوضاع الاجتماعية، وفي مقدمتها الأوضاع الاقتصادية فيما يتعلق بالمساواة وإعادة توزيع الدخل بين الطبقات. إذا كان المنكر من باب أفعال القلوب غير معروفة ولا يطلع عليها فلا يجب النهي عنها، والمعروفة الظاهرة قد نهي عنها. أما أفعال الجوارح فهي التي يجب النهي عنها لظهورها وآثارها في الحياة الاجتماعية.
4
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان، بل واجبان شرعيان مثل الصلاة. وقد يرجع وجوبهما إلى درجة وجوب المأمور بهما أو المنهي عنهما، فيكون الأمر بالوجوب واجبا وبالمندوب مندوبا، حتى يترك الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لمن يأمره وينهاه حرية الاختيار والإدراك في حالة المندوب والمكروه. وهو وجوب لطف ومصلحة، لطف من الله ومصلحة للعباد، تقوم به مصالح الناس التي ترعاها الشريعة.
5
صفحة غير معروفة