وقد يعني الدليل مجرد ثناء ومدح لمقدرة قوم في السياسة، مثل مقدرة قوم آخر في العلم، دون أن يعني ذلك حصر السياسة أو حصر العلم كل منهما فيه اشتهر به في قوم. وقد لا يكون قولا مأثورا من النبي بل من غيره، أو قولا مأثورا متواترا بالمعنى لا باللفظ.
42
والأهم من ذلك كله هو طريقة استعماله، وظهوره في ظرف نفسي خاص، وفي لحظة تاريخية معينة استلت فيها السيوف، وكادت الفتنة أن تقع. فكان من الضروري إظهاره دون التحقق من صحته، بل كان من الممكن وضعه اتقاء للفتنة ودفاعا عن وحدة الجماعة؛ فالضرورات تبيح المحظورات. لقد أذيع الخبر من صاحب النبي وأكبرهم سنا وخليفته في الصلاة، سلطة معنوية تعلن عن سلطة نصية منعا للنزاع وحقنا للدماء كذريعة، حفاظا على وحدة الأمة؛ فالغاية تبرر الرواية. أثر العامل النفسي في الذاكرة درءا للفتنة، واستعمالا لحجة السلطة جريا إلى السقيفة. الغاية العملية الضرورية هي التي فرضت نفسها على الأسس النظرية، والعمل يقين، في حين أن النظر ظن. وقد تم قبول الخبر للغاية نفسها، وحل مشكلة عملية حتى ولو كان الأساس النظري ظنيا. وقد يكون الظرف التاريخي كله وراء ذلك؛ فالقبلية ما زالت حديثة العهد، والجاهلية ما زالت متبقية. كان الظرف إذن خلافا بين قريش وغيرها، وحسم الأمر لصالح قريش دون اعتراض أحد نظرا لما تتمتع به من احترام في الجاهلية وسلطة في الإسلام. وأين قريش الآن؟ من من الحكام الآن يمكن أن يجد أصله في هذا النسب الطويل؟ وإذا كان الخلاف حول النسب قد وقع منذ ذلك الوقت، فكيف به الآن؟ وكل حاكم ينسب نفسه إلى قريش تثبيتا للسلطة وطلبا للطاعة، وكلهم إلى رسول الله منتسب! يستعمل الملوك والأمراء شرط النسب الآن كل منهم يدعى أمير المؤمنين من سلالة السلف الصالحين ضد البيعة والاختيار.
43
وقد تضيق الحلقة أكثر فأكثر، ويتحول شرط القرشية من العام إلى الخاص، فيصبح الهاشمية أو الفاطمية أو الحسينية تأكيدا على أحد الأسباط. فإذا ما حدث صراع سياسي تحول الشرط إلى فرع آخر، من العلوية إلى العباسية. وكلما ازدادت الرغبة في الاستئثار بالحكم ضاق النسب، ووضعت روايات لتبرير النظم السياسية القائمة أو المناوئة. وإذا كانت القربى من الرسول تعني البيت والتربية والتراث، فإن ذلك لا يعني بالضرورة العصب والدم. لا يوجد للرسول عصب، ولا منه إلى بنيه وراثة أو خلافة، لا في الدنيا ولا في الدين، لا في الملكية ولا في النبوة. فالأنبياء لا يورثون ولا يورثون، وما يتركونه صدقة للأمة. وحياة الرسول ليست خاصة به، إرثا لولده من بعده، بل لعامة الناس جميعا.
44
القرشية إذن ليست شرطا للإمامة. وليس السبب في وجودها في غير القرشيين أن الإمام يسهل خلعه، فإن الخلع واجب، سواء كان قرشيا أم غير قرشي؛ لأن الخلع لا يقوم على العصب، بل لعصيان الشريعة. وإذا كانت الأمة قد أجمعت من قبل على أئمة قرشيين، فإن هذا الإجماع لم يتم بسبب القرشية، بل لتوفر شروط الإمامة الواجبة فيهم، سواء كانوا قرشيين أم غير قرشيين، بل قد يكون غير القرشي أولى اتقاء للفتنة، أو مراعاة لمن هو أقل عشيرة، وحتى لا يشعر بالأقلية أمام أغلبية قرشية. إن شرط الإمامة هو العلم بالشريعة، وهو شرط مثالي لا يتعلق بنسب أو عصب أو قرابة، وهو مبدأ عام لا يتغير تحت ضغط الظروف العملية.
45
ولا مجال لقياس الإمامة الكبرى على الإمامة الصغرى؛ فالأولى نيابة عن الأمة، في حين أن الثانية فرض شرعي. شرط الأولى يمكن معرفته بالعقل، في حين أن شرط الثانية سمعي خالص يمكن فهمه بعد ذلك بالعقل. وليس كل من يستحق الصلاة في الإمامة الصغرى يستحق الخلافة في الإمامة الكبرى؛ فشرط الأول أن يكون أقرأ القوم دون بيعة وعقد، في حين أن شرط الثاني البيعة والعقد.
46 (2-2) الشروط العادية (الإسلام والحرية والذكورة والبلوغ)
صفحة غير معروفة