وعلى النقيض ممن جعل مرتكب الكبيرة مؤمنا، هل يمكن أن يكون كافرا؟ فالكبيرة كفر ما دامت خروجا على النظر، وما دام العمل جزءا لا يتجزأ من الإيمان. العمل جوهر الإيمان ومنتهاه، مادته وغايته. وإن الكبيرة ليست فقط خروجا على النظر، بل قد تكون عملا معارضا له في جوهره، ليس فقط بسبب سوء الفهم أو التطبيق كما هو الحال في الصغيرة. الكبيرة هي العمل المضاد للنظر عن وعي ودراية وقصد وتعمد وسبق إصرار. ولا فرق في ذلك بين كبيرة وصغيرة، ولا فرق بين مرات عديدة ومرة واحدة، ولا فرق بين معاص كثيرة أو واحدة.
13
وقد يزيد مرتكب الكبيرة من مجرد كافر إلى مشرك، وكأنه عابد وثن! لهذا الحد بلغ تقديس العمل واعتباره جوهر الإيمان. يصل الأمر بارتكاب الكبيرة إلى أن يكون شركا، ومع ذلك السماح بالصغيرة ألا تكون كفرا. وكأن الزيادة في الكبيرة تؤدي إلى نقص في الصغيرة. والشرك مثل الكفر يوجب القتل، كل ذنب كفر، وكل كفر شرك، وكل شرك يوجب القتل! كل شرك عبادة للشيطان؛ لأن الشرك شركان؛ شرك عبادة للشيطان، وشرك عبادة للأوثان. والكفر كفران؛ كفر بالنعمة، وكفر بالربوبية. وارتكاب الكبيرة شرك لأنه عبادة للشيطان، وكفر لأنه كفر بالنعمة. ولا فرق في ذلك أيضا بين بالغ وطفل، فإذا قتل البالغ قتل الطفل معه! ولو شرب رجل من جب به قطرة خمر لكفر!
14
وقد يكون الكفر كفرا بالنعم؛ أي أنه جحود عملي وليس كفرا نظريا. هو إنكار عملي، وكأن الفعل إثبات عملي لقضية نظرية. وهو كفر أقل حدة من الكفر والشرك الذي يطغى فيه العمل على النظر، فيضيع النظر بضياع العمل. وتخف حدة الوعيدية قليلا، فلا يعلم هل يعذب مرتكب الكبيرة في النار أم لا، وإن عذب فإنه يعذب في غير النار، ولا يخلد فيها ، وإن أتى الكبيرة غير مصر فإنه يكون مسلما، أما لو ارتكب الصغيرة وهو مصر فهو مشرك. وفي هذه الحالة لا يكفر المخالفون، تحل ذبائحهم ومناكحتهم وموارثتهم. مرتكب الكبيرة إذن ليس مؤمنا ولا كافرا على الإطلاق، بل في فعل معين وموقف خاص، وهو ارتكاب الكبيرة. قد يظل موحدا، ولكنه غير مؤمن. هو موحد من حيث المعرفة، ولكنه غير مؤمن من حيث السلوك.
15
النفاق إذن هو انفصال العمل عن النظر، وهو عكس التوحيد؛ أي تطابق النظر مع العمل. مرتكب الكبيرة إذن مؤمن وكافر في آن واحد، مشترك بين الإيمان والكفر، لا مؤمن على الإطلاق ولا كافر على الإطلاق.
16
وقد يتحدد الكفر شرعا فقط لأنه حكم شرعي؛ فما كان فيه من المعاصي حد فليس فاعله كافرا، بل يكون سارقا أو زانيا أو شاربا للخمر، أما ما لم يكن فيها حد فيكون صاحبها كافرا.
17
صفحة غير معروفة