14
الإمام هو الفاصل بين الحلال والحرام، وليست الشريعة التي وضعها البشر المغتصبون لحق الله، وهو الذي سيعيد الشريعة إلى نصابها. وقد يتحول الأشخاص إلى أكوان فيصبح محمد السماء، وأصحابه الأرض، والعدل والإحسان الإمام، والخبث والطاغوت أعداءه، والصلاة دعاءه، والزكاة عطاءه، والحج القصد إليه. إن البنية النفسية لمجتمع الاضطهاد تنحو بالإنسان إلى التضخيم والتصوير للصراع بين الخير والشر، والحق والباطل، والعدل والظلم. ويظهر ذلك على مستوى القانون والتشريع، وهو ما يعاني مجتمع الاضطهاد منه.
15 (2-2) إسقاط التكاليف
وإذا كان العمل هو أداء الطاعات واجتناب النواهي، أي القيام بالتكاليف الشرعية، فإنها تسقط أو ترتفع أو تبطل نظرا للكفر بالشرائع الأرضية التي تقوم على الظلم وهضم الحقوق، وإحساس مجتمع الاضطهاد بأن الحق معه، وبأنه قد اتحد بالحق، أو بأن الحق قد حل فيه، وأنه قد أصبح هو والحق شيئا واحدا. تجسد الحق فيه وتجسد هو في الحق، إما أن يحل الله في الإنسان أو أن يرتفع الإنسان إلى الله، أو يغوص الإنسان في أعماق نفسه فيجد الحقائق دون الظواهر والأشكال. تسقط التكاليف إذن إما بالارتفاع إلى أعلى أو بالانخفاض إلى أسفل، أو بالدخول إلى الباطن ثم إعمال التأويل. ترتفع التكاليف عندما ينتقل الإنسان من مستواه الإنساني إلى مستوى البهيمية أو الملائكية، والجزاء في كليهما ثوابا أم عقابا؛ فالتكاليف مرتبطة بالوجود الإنساني بين الحيوان والملاك. وكما تؤدي نظرية الارتفاع إلى إسقاط التكاليف، كذلك تؤدي نظرية الحلول إلى إسقاط الشرائع حيث يقود الوعي إلى الإحساس بالرضا عن طريق رفع الروح وخفض الجسد؛ مما يؤدي إلى الإحساس بالتقوى والتطهر، وتصبح الأعمال متجهة نحو الداخل لا نحو الخارج، وهي أعمال تنقية الروح وتطهير البدن. التأليه إحساس بالكمال، وبأنه لا يوجد شيء يمكن عمله بعد أن وصل الإنسان إلى قمة الكمال. والعواطف في قمتها تمنع الفعل. وإن تضخم العالم الباطني من خيال وانفعال يجعل كل عمل خارجي لا قيمة له، كما يساعد الإحساس بالكمال على التبرير لكل فعل بعد أن أصبح الفعل مشرعا من أعلى ومضمونا من القمة. ولما احتاجت هذه الأعمال إلى رموز بدلا عن الشرائع، وطلبا للإيحاء والإقناع وإظهار النفس والدعوة أمام الناس، زاد الزخرف، وازدحمت الزينات، وكثرت الطقوس والألوان، وظهرت «الأشياء» المقدسة بالصورة والصوت، كالسجاد والحناء والخواتم والنعال، وكثرت مظاهر البدن مثل العمش في العين من طول البكاء، وأصوات النحيب، وتأوهات الروح. تحولت الشعائر إلى طقوس شبيهة بطقوس الديانات القديمة واليهودية والنصرانية، حتى يعيش الإنسان في عالم من الرموز والاحتفالات. تؤدي الاتجاهات الباطنية إلى إسقاط الشرائع لأنها تحويل للخارج إلى الداخل، وللقانون إلى عاطفة، وللواقع إلى خيال. ويخاطب الباطني الناس مؤثرا فيهم بطرق الإيحاء حتى يستدرجهم إلى إسقاط الشرائع. يوجه صاحب العبادة إلى معانيها حتى يقضي على العمل بالمعرفة، ويدفع الباحث عن اللذة إلى الشك في الدين، ويدفع الشك في الدين إلى إنكار المعاد حتى تسقط الشرائع؛ فإذا ما ارتبطت الشرائع بأصول غيبية سهلت زعزعة هذا الأصل؛ فإذا ما قامت على علل الأحكام فإن معرفة العلل تكون كافية دون إتمام الشعائر؛ لذلك حرم أهل الظاهر التعليل حتى لا ينتهي العقل إلى القضاء على الشعائر محتجا بالتعليل؛ فإذا ما كانت الشعائر تعبيرا عن الطبيعة فالأولى الإتيان بأفعال الطبيعة كبديل عن الشعائر وتأصيل لها. وعلى أحسن الأحوال تكون الفرائض نوافل. يكفي شكر المنعم عليها نظرا لغناء الرب عن خلقه. من شاء قام بها، ومن شاء لم يقم، والأمر متروك لاختيار الإنسان وحريته.
16
وقد يكون العمل هو الطريق إلى النظر وليس العكس؛ فالعمل وسيلة، والنظر غاية. ويتجه النظر نحو شخص الله، ولا يكون أساسا للعمل؛ فالعمل أساس النظر. ويصل الأمر إلى رفع الإنسان إلى رتبة أعلى من الإنسانية، وأعلى من الملائكة والأنبياء والصالحين والمقربين؛ فالخلل في العمل إما أن يهبط بالإنسان إلى مستوى البهيمية، وإما أن يرفعه إلى مستوى الملائكة. الإنسان وسط بين الحيوان والملاك، وحركة بين اتجاهي الخفض والرفع، السفل والعلو، الأدنى والأعلى. في هذه الحالة تسقط التكاليف، ويصبح الله مطيعا للعبد، وليس العبد مطيعا لله؛ لأن للعبد الأولوية في الفعل على فعل الله، وكلما زاد فعل الإنسان قويت رؤيته لله؛ فالله يرى قدر الأعمال، والله يفرح بأفعال عباده، ويغتم ببعدهم عنه؛ فالله معبود بعبادة الناس له، ولم يكن كذلك قبل خلقه لهم؛ فوجود المعبود مشروط بوجود العابدين وبعبادتهم له. وإن لم تسقط الشرائع فإنها تتحول من كم إلى كيف، وترتبط بالحالة الشعورية للإنسان، وتختلف باختلاف الأفراد ومراتبهم الشعورية. من وصل إلى مرتبة المعرفة سقطت عنه الشرائع؛ فبين الحبيب والحبيب لا يوجد حجاب أو قانون.
17
والحقيقة أن إسقاط الشرائع ليس أثرا من الديانات الخارجية، مانوية أو غيرها، بل تعبير عن الكفر بكل الشرائع الأرضية التي وحدت بينها وبين الشرائع السماوية ظلما وعدوانا من أجل تقويض النظم القائمة، وإقامة شرعية أخرى تأخذ حقوق المضطهدين. (2-3) إباحة المحرمات
وإباحة المحرمات نتيجة طبيعية للكفر بالشرائع والقوانين وإسقاط التكاليف التي استعملتها السلطة اللاشرعية القائمة لتكبيل المعارضة وفرض الطاعة بالقوة. وإباحة المحرمات أكثر دلالة من تحريم الحلال؛ فالتحرر من القانون إحدى وسائل التحرر من المجتمع. وتتمثل إباحة المحرمات في ميدانين؛ الطعام والنكاح. ففي الطعام إباحة الميتة والدم ولحم الخنزير والخمر، وفي النكاح إباحة الزنا واللواط والمتعة الحرام. ويهدف ذلك كله إلى إطلاق قوى الطبيعة الحبيسة تحت القهر، وتقوية المجتمعات السرية والروابط المشتركة حيث يشيع كل شيء؛ النساء والأموال. والميسر أيضا مباح ضد قوانين السلطة نقضا لها، وإعلانا أمام النفس عن عدم الاعتراف بشرعيتها، ثم تأخذ النفس شرعيتها من ذاتها، وتصبح أفعالها مقياس شرعيتها فتبيح كل شيء؛ رد فعل على القهر. وإن التحرر في القهر الاجتماعي يبدأ من التحرر من القهر الفردي، وإن التحرر من القانون شرط للتحرر من السلطة. إن التحرر من الخارج لا يتم إلا بعد التحرر من الداخل، بل جهاد الأعداء لا يبدأ إلا بعد جهاد النفس، يليه جهاد الغاصبين. إن إنكار الذات يولد رد فعل عكسي وهو إثبات الذات، كما يولد التحريم الإباحة؛ وبالتالي يصبح الإنسان أولى بابنته الحسناء وأخته الهيفاء. وإذا ما استند التحريم إلى التخويف بالمجهول والإيمان باللامعقول، قامت الإباحة على التحرر من هذا الخوف من المجهول، وعلى عقل كل شيء مادي خارج العالم؛ فطالما استعمل الغيب للسيطرة على الناس؛ وبالتالي يكون إنكار الغيب مقدمة لتحريرهم. كما أن كراهية المجتمع الغاصب تؤدي إلى التحريم من الزواج منه؛ فلا يتم زواج إلا من داخل المجتمع المضطهد، زواج الأقرباء، داخل مجتمع الإيمان في مواجهة مجتمع الكفر. المؤمن لا ينكح إلا مؤمنة، والكافر لا ينكح إلا كافرة. ولما كانت الأثرة والأنانية من صفات الغير، فإن الشيوع يكون من ممارسات الأنا؛ وبالتالي تنشأ المجتمعات المغلقة التي يباح فيها الجنس ويصبح على المشاع، عنادا ضد مجتمع الكفر، والاستئثار عندما يستحوذ الرجل على امرأة يمتلكها لنفسه ويمنعها غيره. تريد الجماعات المضطهدة الغياب عن الواقع الأليم، وتعيش في عالم التمني والأحلام، فتسقط الحدود رمز القهر، والتي يقوم الإمام الغاصب بتطبيقها، وتدعو إلى السكر والشراب معارضة له، ورفضا لقانونه، كما تفعل جماعات الصوفية؛ فلا فرق بين الهجرة إلى الداخل والهجرة إلى الخارج، بين الفرار إلى الله والفرار من الله!
18
صفحة غير معروفة