فالإيمان لغة هو التصديق، ومحله القلب. قد يصاحب التصديق عمل القلب وليس نشاط الذهن، أو عمل اللسان، أو فعل الجوارح. وإذا كان العمل مقرونا بالإيمان فإن العطف لا يعني انه جزء منه؛ لأن الجزء لا يعطف على الكل. ويمكن تأييد هذا الموقف بعدة حجج نقلية وعقلية؛ فكثير من النصوص تشهد بأن الإيمان يدخل في القلب أو لا يدخل. وإذا كان المأمور مقدورا اختياريا، فإن ذلك لا يعني أنه من مقولة الفعل، بل من مقولة الإيمان، فلا فاعل إلا الله. والتصديق اللغوي أو المنطقي أعم من الاختياري؛ وبالتالي لا يرد التصديق إلى ما هو أقل منه. وإن صدق المتكلم بالقلب قبل أن يكون باللسان. والتصديق من جنس العلوم، والعلم أشمل من العمل وأعم منه. كما أن الملائكة تصدق من غير كسب أو فعل. هذه الحجج في الحقيقة تهدف إلى جعل الإيمان نظريا خالصا لا صلة له بالفعل، وأن يكون مجرد قبول أو إذعان أو رضوخ باسم الشهادة الباطنية حتى دون عقلها.
2
ويمكن تفنيد هذه الحجج بأخرى مضادة لها من أجل إثبات أن الإيمان لا يرد إلى التصديق وحده، بل يشمل المعرفة والإقرار والعمل؛ فلو كان الإيمان هو التصديق لما كان الإنسان مؤمنا في حالة نومه؛ لأنه كان غافلا غير مصدق؛ فالتصديق يتطلب الشعور اليقظ وليس الشعور الغافل، كما يتطلب القدرة على الاستبطان، وهو ما لا يتوافر لكل الناس، كما يتطلب أن من صدق وسجد للشمس يكون مؤمنا؛ ومن ثم فالتصديق لا يكون مجرد إيمان باطني، عمل للقلب، ولكنه يحيل إلى موضوع التصديق حتى يحدث التطابق بين فعل الشعور وموضوعه. كما أن التصديق لا يكون فقط للإيمان، بل قد يكون للشرك؛ فكما أن المؤمن مصدق بالتوحيد فكذلك المشرك مصدق بالشرك؛ وبالتالي لا يكفي التصديق كي يكون مماثلا للإيمان، بل لا بد من مضمون الإيمان بالإضافة إلى صورته، وهي التصديق.
3
ولكن هل التصديق داخلي أم خارجي؟ هل في الشعور أم في الواقع؟ هل التصديق بالله تصديق بما أتى به، والتصديق بالنبي تصديق بخبره؟ إن التصديق لا يكون بالله، بل بكلامه الذي من خلاله يمكن التعرف على أصلي التوحيد والعدل. والتصديق بالخبر لا يكون خارجيا فقط عن طريق صحة الرواية، بل يكون أيضا عن طريق تطابق مضمونها مع التجربة الحية الفردية والاجتماعية. لا يكون التصديق بالحلف، بل بالبرهان؛ فأغلظ الأيمان لا يكون برهانا، وشهادة الباطن غير التسليم الباطني، والانقياد القلبي ليس هو الإذعان والقبول، كما هو الحال في علوم التصوف، بل إيجاد البرهان التجريبي في شهادة الوجدان على صدق المضمون. وهو تصديق اختياري بناء على صفاء النية أو البحث المروي عن الدلالة. لا يتم بكشف أو إلهام، وليس من أفعال الهداية أو الضلال، التوفيق أو الخذلان، العصمة أو الصون أو الحفظ؛ وذلك لأن أفعال الشعور الداخلية أفعال حرة.
4 (1) هل يوجد تصديق بلا استدلال؟
وإذا كان الإيمان تصديقا، فهل هو بالضرورة تصديق بلا استدلال؟ العجيب إخراج كل استدلال من التصديق، وجعل التصديق أقرب إلى الاعتقاد الجازم بلا دليل أو برهان، وتفنيد كل الأدلة لإثبات الدليل هو في حد ذاته إثبات لشرعية الاستدلال. ومع ذلك فهناك عدة حجج توجه ضد الاستدلال من أجل إخراجه من التصديق، وكلها يسهل تفنيدها؛ فإذا كان الاستدلال بعد البلوغ وليس قبله فشرطه العقل، والعقل ليس فقط شرط الاستدلال، بل إنه شرط التكليف. والاستدلال لا يحتاج إلى حد حتى يجب في التصديق؛ لأن التصديق لا يتم إلا بالاستدلال؛ أي بتحول الحدس إلى برهان، والتجربة إلى نظر. وإن احتاج الاستدلال إلى حد فمكانه علم المنطق. وقد تم تعريف الاستدلال من قبل في نظرية العلم.
5
والاستدلال لا يفيد الشك، بل هو السبيل للوصول إلى اليقين. وعلى افتراض أنه يورث الشك؛ فالشك أول الواجبات حتى قبل النظر. ولم يكتف إبراهيم بحدوث الإيمان القلبي، ولكنه أراد الاستدلال حتى يطمئن قلبه. وقد تم التصديق في النهاية بالاستدلال. والشك المنهجي ليس مضيعة للوقت، ولا يستغرق العمر، ولا يؤدي إلى اللاأدرية. وماذا عن بديل الاستدلال بالرغم من مخاطره ومحاذيره إلا الاختلاف والتردد والهوى أو التقليد والاتباع؟ ليس التواتر بديلا عن الاستدلال؛ فالتواتر حجة تاريخية تعطي اليقين التاريخي لصدق الرواية، أي صحة الخبر، ولا يعطي يقينا نظريا أو تصديقا للمعارف، بل إن من شروط التواتر عدم مناقضته لشهادة العقل، وهو أصل الاستدلال. وليس الإجماع بديلا عن الاستدلال؛ فالإجماع حجة سلطة، وليس حجة عقل. كما أن الإجماع يقوم أيضا على الاستدلال عند المجتمعين حتى ولو كان استدلالا على نص وتأويلا له. وليست المعجزة بديلا عن الاستدلال لأن المعجزة قد تكون فقط دليلا على صدق النبوة، وليس على التصديق بها. والمعجزة دليل؛ وبالتالي فهي استدلال من نوع خاص، استدلال عن طريق الإعجاز، وقد يقع استدلال على نحو آخر، ثم يصبح الخلاف بعد ذلك: هل الدليل هو دليل المعجزة أم دليل العقل؟ وإذا لم تكن المعجزة دليلا على صدق النبوة فإن الدليل يكون هو دليل العقل.
6
صفحة غير معروفة