وفي أمور المعاد تفنى الجنة والنار حتى يبقى الله وحده لا يشاركه أحد في صفة البقاء. وتسري الروح وتنتقل من جسم إلى آخر كما تنتقل أرواح الشهداء إلى حواصل خضر، فالروح تبعد وتقرب، تسكن وتتحرك. تعود الحياة إلى «عجب الذنب»، منه خلق ومنه يعود من جديد.
92
ويظهر موضوع الإيمان والعمل أكثر من الإمامة، وبه كل نقائص الصلة بين الإيمان والعمل؛ فقد يكون الإيمان قولا وإقرارا باللسان فحسب، أو تصديقا بالوجدان فقط، أو معرفة نظرية صرفة، أو عملا أهوج لا يسنده نظر. فالإيمان ليس معرفة فقط، وإن كفر فرعون وإبليس لم ينشأ من نقص في المعرفة. ولا يمكن أن يكون الإيمان عقدا بالقلب فقط وتصديقا بالوجدان بلا تقية، وإن عبد الأوثان أو التزم باليهودية أو النصرانية وعبد الصليب وأعلن التثليث، وإلا ففيم الإيمان؟ وكيف يتخارج في قول أو في فعل؟ ولا يمكن أن يكون الإيمان بالقول وحده، وإن اعتقد الكفر بقلبه، وأن تكون له الجنة، فالقول ما هو إلا دليل على الوجدان، والوجدان تصديق للمعرفة، والكل يتخارج في الفعل. ولا يكفي أن يكون الإيمان فعلا ظاهريا بالإسلام وتكذيبا باللسان بلا تقية؛ فالقول تعبير عن معرفة وتصديق، ولا يمكن إخراج الفعل من الإنسان حتى لا تضر مع الإيمان سيئة، ولا تنفع مع الكفر طاعة. ولماذا لا تقبل التوبة إذا ما استوفت شروطها من الندم على ما فات، وترك الزلة في الحال، وعقد العزم على عدم العودة لها في المستقبل، وتكفي في ذلك معصية واحدة دون كلها؟ ولماذا لا يغفر الله الصغائر بارتكاب الكبائر؟ فإذا ما تم اقتران المعرفة بالتصديق بالقول بالفعل ظهر الإيمان الكامل المؤدي إلى الجنة بالضرورة دونما كسر لقانون الاستحقاق، فالبداية الحسنة تؤدي إلى النهاية الحسنة دونما تدخل في علم الله أو إرادته.
93
وفي موضوع الإمامة يشترط البعض أن يكون الإمام أفضل أهل زمانه، ويجيز البعض الآخر وجود إمامين في وقت واحد. وفي العمليات لا يجيز البعض تنفيذ حكم شرعي اجتهادي في نازلة بعد الانتقال إلى نازلة أخرى، بينما يحرم البعض الآخر ذبائح أهل الكتاب، ويخطئ فريق ثالث حروب الردة، ويرى الصواب في الرجوع.
94
وفرق المعارضة بأنواعها هي في الأساس أحزاب سياسية اتخذت العقائد سلاحا لتثبيت السلطة أو للقضاء عليها؛ وبالتالي لا تفهم العقائد إلا من خلال المعارك السياسية. وكان سلاح التكفير في أيدي السلطة وخصومها سلاحا سياسيا متسترا وراء الدين في مجتمع العقائد فيه مصدر سلطة، والنص مرجع وحكم. ولا فرق بين فرقة ناجية وفرق ضالة، كلها سواء. وما كفرته الفرقة الناجية هي نفسها وقعت فيه، وأتاها الفقهاء يضللون عقائدها كما ضللت هي عقائد الفرق الضالة. ومن أعلى من الفقهاء سلطة في مجتمع ديني أو سياسي يقوم على الدين؟ لقد تبارت جميعها في الكلام وتركت الفتوح، وشقت وحدة الأمة، وزرعت الأحقاد، وأشعلت الفتن فيها، وسفكت الدماء باسم العقيدة، كل منهم يدافع عن إله السماء ويترك إله الأرض. وجرى الحكام مجراهم وراء المذاهب النظرية، فتحولت السلطة السياسية إلى حكم بين المذاهب، وأصبح السيف هو الفيصل بين الأقلام. لا فرق إذن بين تراث السلطة وتراث المعارضة، بين فرقة السلطان وفرق المعارضة، في ضياع جهد الأمة فيما لا يفيد تأكيدا لاغتراب الناس عن مواقعهم، وتعمية للناس عن مشاكلهم الحقيقية ورؤية واقعهم. وإن لجوء الفقهاء إلى النص الخام أقرب إلى العودة إلى منبع الطاقة الحية والقوة الضاربة الطبيعية ضد صياغات الفكر ومتاهات العقول. ومع ذلك يظل هو أيضا سلاحا متبادلا بين الفقهاء، فقهاء الأمة وفقهاء السلطان.
95
رابعا: من الوحدة إلى التفرق أو من التفرق إلى الوحدة
إذا كان تاريخ الفرق قد دخل كملحق للإمامة وتذييل لها في بعض مصنفات العقائد، فإنه هو الموضوع الرئيسي في معظم مقدمات مصنفات الفرق.
صفحة غير معروفة