19
فوحدة الجزيرة مقدمة للانطلاق بوحدة خارجها. ولكن طبقا لنسق العلم ومنظومة العقائد الثلاثية بين المقدمات النظرية الأولى (نظرية العلم ونظرية الوجود)، والإلهيات (العقليات)، والسمعيات (النبوات )، يمكن القول إن معظم الفرق تتعلق بنظرية الوجود، ويتم تكفيرها بسببها، وهي مجرد مقدمة نظرية للإلهيات، يتلوها التوحيد ثم النبوة والمعاد. ولكن لا يظهر على الإطلاق أصل العدل أو موضوع الإيمان والعمل أو موضوع الإمامة؛ لأنها موضوعات عقائدية صرفة لا تمس الفرق الحضارية، في حين أنها الموضوعات الرئيسية لفرق المعارضة.
ففي نظرية العلم تبدو السوفسطائية أولى فرق الكفرة الذين لا تؤخذ منهم الجزية؛ فهي إنكار للحقائق، والحقائق أساس الاعتقادات؛ فالسوفسطائية تنكر العلم، وتنكر وجود أي شيء يمكن معرفة حقيقته. وإن خفت فإنها تقف موقف اللاأدرية بين الإثبات والنفي. وإن وجدت مثل هذه الحقائق فإنها تكون تابعة للاعتقادات؛ أي نسبية خالصة دون إمكانية الاتفاق عليها موضوعيا. تكفي إذن السوفسطائية ولا تقبل منها الجزية، إما الإسلام أو القتال. فالحقيقة موجودة ويمكن معرفتها، وتكون معرفتها شاملة وموضوعية. ويهم الفرقة الناجية القطع والحسم والإثبات حتى يمكن تربية جماهير الأمة على الاعتقاد الثابت الذي يقترب من التعصب؛ فالسلطان موجود، وشرعيته معروفة ولا خلاف عليها. فالشك يولد التفكير، والتفكير يؤدي إلى الرفض. وقد انتهى الأمر إلى القطيعة الخالصة؛ فبانتهاء الشك ينتهي الفكر، مع أن الشك أساس اليقين. أما السمنية فإنها تقر بشيء يمكن معرفته، ولكنها لا تثبت إلا المعرفة الحسية فقط. أما النظر فتتكافأ فيها الأدلة، وتتعادل فيه الحجج؛ وبالتالي يبطل النظر كطريق إلى المعرفة؛ فهي أيضا لا يقبل منها الجزية، إما الإسلام وإما القتال. فلا يكفي التسليم للسلطان حسيا عن طريق القوة والغلبة والعسكر، بل لا بد من التسليم عقليا وشرعيا حتى يتأصل الاعتقاد، ولا يأتي سلطان آخر أكثر غلبة يدركه الحس فيستسلم له. وقد أدى إنكار المعرفة الحسية إلى أن أصبح وجداننا القيمي لا يعتمد عليه، وهو في النهاية أساس النظر، وأصبح النظر خاويا من غير مضمون.
20
أما بالنسبة لنظرية الوجود فتتنوع الفرق، وتشمل الدهرية وأصحاب الطبائع وأصحاب الهيولى وأصنافا من الفلاسفة وكفرة المنجمين. فعند الدهرية، العالم قديم طبيعة وإنسانا، لا أول له، والتسلسل إلى ما لا نهاية غير مستحيل. وهل لا بد أن يوجد إنسان أول أو سنبلة أولى أو علة أولى منفصلة عن معلولها؟ ألا يؤدي ذلك إلى التشخيص وتصور الإله على أنه صانع؟ وإذا هوت الأرض أبدا إلى ما لا نهاية فإن طاقتها تتناقص. إن القول بعدم البداية الأولى ليس إلحادا، بل هو أكثر عقلانية من حيث الفهم. التواصل أقرب إلى العلم، والانقطاع أقرب إلى الدين. والعالم موضوع علمي، والقول بقدمه فكر علمي. أما الخلق فموضوع ديني، والقول بحدوثه فكر ديني. ولكن لماذا تكفير الدهرية وهي تؤمن بوجود الله، ولكنها فقط تتصور العالم قديما بقدمه حتى لا تتصوره صانعا، وبناء على حجج عقلية تثبت قدم العالم، وفي مقدمتها قدم العلم، وقد كان العالم فكرة في الذهن الإلهي قبل خلقه بالإرادة أو الأمر؟ أما أصحاب الطبائع فيقولون بقدم العناصر الأربعة، وكل أنواع النبات والحيوان والجواهر مركب منها، وقد اختلفت باختلاف الصور لاختلاف المزاج في التركيب. والأفلاك طبيعة خامسة قديمة غير قابلة للاستحالة والتغير. والصانع قديم، لوجوب سبق الفاعل للفعل. فالقدماء ستة؛ العناصر الأربعة والفلك والصانع. وهي تصورات فلسفية ممكنة سادت الحضارة لا تستوجب التكفير والقتال.
21
ولا يفترق أصحاب الهيولى عن أصحاب الطبائع إلا في التفاصيل؛ فعند أصحاب الطبائع للعالم هيولى قديمة وأعراض حادثة، وأن الأعراض تظهر من الجواهر القديمة طباعا، ولكل جنس من العالم هيولى مخصوصة؛ أي إن الهيولى الأولى تتعين في جواهر خاصة، كل منها قديم. وهو تصور ممكن لا يستوجب التكفير أو القتال. أما الفلاسفة فإنهم أصناف؛ صنف يقول بقدم العالم ونفي الصانع، وصنف ثان يقول بقدم العالم وأن له علة قديمة، وصنف ثالث يقول بأن الصانع متصور بالعقل. فالصنف الأول القائل بقدم العالم ونفي الصانع يعطي الأولوية للموضوع على الذات، ولا يقع في التشخيص، ويتصور أن لكل شيء علة، وأن الشيء هو معلول؛ أي مفعول وليس شيئا. وهي بداية القسمة بعد ذلك في السياسة إلى حاكم ومحكوم. والصنف الثاني القائل بعالم قديم وعلة قديمة يظل على الموقف الأول الطبيعي، ولكنه يقترب من الثاني الديني دون الوقوع في التشخيص، فيكون الشيء علة ومعلولا، ذاتا وموضوعا. والصنف الثالث القائل بأن الصانع متصور بالعقل هو قمة الإيمان العاقل، فالعقل أساس النقل، وبداية علم أصول الدين، والانتقال من الطبيعة إلى ما وراء الطبيعة عن طريق الأدلة على وجود الله. فهل في هذا كفر يستوجب القتال؟ وهل تأويل الفلاسفة مخالف لنصوص الشرع أم أنه تعقيل لها لمزيد من الإنسانية والعقلانية والروحانية والشمول؟ أليس إنكار علم الله بالجزئيات صورا إنسانية عن العلم الاستنباطي ضد العلم الاستقرائي، وهو أقرب إلى الفلاسفة، على حين أعطى علماء أصول الفقه الأولوية للمنطق الاستقرائي على المنطق الاستنباطي من أجل إصدار الأحكام على الجزئيات؟ أليس إنكار حشر الأجساد، والتعذيب بالنار، والتنعيم في الجنة بحور العين والمأكل والمشرب والملبس من أجل إثبات المعاد الروحي والنعيم الروحاني، أقرب إلى العقل والإنسانية؟ أليس القول بتقدم الله على العالم هو تقدم بالرتبة كتقدم العلة على معلولها دون أن يعني ذلك تقدما في الزمان، إحدى التصورات الممكنة التي لا يرفضها العقل؟ إن تأويل الفلاسفة للنصوص والانتهاء إلى هذه القضايا الثلاث إنكار علم الله بالجزئيات، وإنكار حشر الأجساد، والقوم بقدم العالم، ليس تكذيبا للنبوة وللرسالة، بل تحويل للعقائد إلى معان عقلية تتفق وطبيعة العصر والروح المثالية للفلسفات القديمة؛ نعمة العقل، ومنهج الاستنباط، ولذة الدهشة والمعرفة. وإن التعديل الفاسد ليس كذبا أو كفرا، بل هو اجتهاد خاطئ له أجر. فهل يستوجب قول الفلاسفة تكفيرا أو قتالا؟
22
أما كفرة المنجمين فإنهم يقولون بقدم الأفلاك والكواكب، وبأن حركاتها سبب وقوع الحوادث في العالم. يقول البعض منهم بألوهة الشمس وعبادتها، والبعض الآخر بألوهة الشمس والقمر. الأول سلطان النهار، والثاني سلطان الليل. ويقول فريق ثالث بعبادة الكواكب السبعة مدبرات العالم. ويفضل فريق رابع القول بقدم زحل وحده لأنه أعلاها. كلها فرق جعلت العالم العلوي بين الإلهيات والطبيعيات كخطوة انتقال من الفكر الديني إلى الفكر العلمي. فهل تكفر وتستباح دماؤها؟ ولماذا اعتبرت الصابئة، وهم عبدة الكواكب، مع أهل الكتاب يقبل منهم الجزية ويبقون على عقائدهم؟
23
صفحة غير معروفة