ثالثا: هل هناك تكفير شرعي عملي؟
لم يكن التكفير العقائدي النظري إلا وسيلة لتكفير أعظم وأهم، وهو التكفير الشرعي العملي بغية العزل السياسي لفرق المعارضة، ودفاعا عن النظام القائم. تلك طريقة إدارة الصراع السياسي في المجتمعات التي تكون فيها الحجج نقلية اعتمادا على سلطة التراث. ليس الأمر إذن مجرد فرق عقائدية، بل يتجاوزها إلى حقوق الأفراد المدنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ لذلك ارتبط علم أصول الدين بعلم أصول الفقه، والعقيدة بالشريعة، والأصول بالفروع. وقد اعتبر هذا الموضوع خارجا عن علم الأصول وأدخل في علم الفروع، مسألة فقهية لا تدخل في علم أصول الدين.
1
وإذا كان موضوع التكفير الشرعي العملي لا دخل للعقل فيه، وإنما يعتمد على الأدلة السمعية وحدها، فكيف يكون موضوعا في علم أصول الدين الذي يعتمد على الأدلة العقلية والسمعية معا، والذي تكون فيه الأدلة العقلية أساس الأدلة السمعية حتى يتحول ظن النقل إلى يقين العقل، على ما هو معروف في نظرية العلم في المقدمات النظرية؟ إن أقصى ما يمكن عمله هو اعتباره من السمعيات، مثل النبوة والمعاد والأسماء والأحكام والإمامة، التي ليس فيها يقين، وتظل ظنية خالصة، ولكن تزداد الخطورة أكثر لأن الموضوعات السمعية الأربعة نظرية خالصة لا يترتب عليها كفر شرعي عملي، في حين أن الكفر الشرعي العملي تترتب عليه آثار اجتماعية واقتصادية وسياسية تؤدي إلى الحصار والعزلة لمن يشهر ضده سلاح التكفير، بل إن معرفة الكافر تأتي من أضعف الروايات، من الأخبار عن حال الآخرة وأمور المعاد، وأنه في النار على التأييد أولا، ثم حكمه في الدنيا ثانيا فيما يتعلق بالقصاص والنكاح وعصمة المال؛ أي فيما يتعلق بحقوقه السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
والعجيب أنه طبقا لعقائد الفرقة الناجية أن القول الكاذب أو الاعتقاد الجاهل ليس موجبا للتكفير، وعلى أسوأ الأحوال بالسمع، في حين أنه يمكن معرفة الكذب والجهل بالعقل. وقد يكون الدافع على هذا التأكيد رفض المحاجة في الأحكام الشرعية، واعتبار الحكم على الناس بالكفر لا رجعة فيه ولا مراجعة لأنه لا دخل للعقل فيه، مع أن كل الأحكام الشرعية التي بها قطع وظن تصدر عن أصل واجتهاد، واحتمال المراجعة فيها وارد، ومع ذلك فالأمر كله لا يخلو من تعصب وهوى. كل فرقة تكفر ما سواها؛ فالتكفير سلاح ضد الخصوم. وتاريخ الفرق ليس تاريخا موضوعيا محايدا؛ لأنه لا يوجد مقياس واحد لصحة العقائد. ولما كانت الفرقة الناجية هي فرقة السلطان كانت هي المحك الذي تقاس صحة عقائد فرق المعارضة.
2
ومع ذلك وضعت الفرقة الناجية مقياسين للتكفير؛ الأول إنكار أصل شرعي معلوم بالتواتر، والثاني ما علم صحته بالإجماع. وكأن التكفير ليس للعقائد، بل لمناهج النظر وطرق الاستدلال، هو تكفير منهجي وليس تكفيرا موضوعيا؛ فالتواتر مصدر للعلم ولا يمكن إنكاره؛ لأنه جزء من نظرية العلم، وشرط يقين الحجج النقلية؛ وبالتالي هو أساس التسليم بالأصول والمصادر الشرعية. وشروط التواتر الأربعة؛ العدد الكافي، استقلال الرواة، الإخبار عن حس، التجانس في الزمان؛ تجعله يقينيا. ولكن هل هناك من ينكر أصلا شرعيا معلوما بالتواتر بالفعل أم أنها حالة افتراضية خالصة؟ وإن وجدت، فهل هي فرقة من فرق المعارضة أم فرقة من فرق الأمة، من داخل الأمة، من داخل الحضارة أو من خارجها؟ في الحقيقة لا يمكن لأحد إنكار التواتر شرعا أو عقلا؛ لأنه أساس المعرفة التاريخية قديما وحديثا. وهو أحد أبواب علم أصول الفقه للتحقق من الصحة التاريخية للمصدر الثاني للتشريع، وهو السنة. ولكن يظل السؤال بالنسبة لعلم أصول الدين قائما: هل يكون مضمون الإيمان الوقائع التاريخية، الأشخاص والوقائع والحوادث والبلدان، تعرف بالتواتر شأن المعارف التاريخية، أو حتى الشعائر والطقوس بما في ذلك التجارب التاريخية ورصيد الشعوب من الخبرات المشتركة؟ هل مضمون الإيمان الفتنة ووقائعها، وحياة الرسول مناكحه وأزواجه وأصحابه، أم نسق من العقائد تعطي تصورات للعالم ودوافع للسلوك؟ فقد يحدث إنكار للوقائع التاريخية كأحد الحلول للمشاكل النظرية بصعوبة إصدار أحكام على الأحداث، أو إغراقا في الذاتية والانفعال ضيقا بالعالم. فهل يكون الصوفية بهذا المعنى كفرة نظرا لأن الواقع الصوفي شعوري وليس واقعا تاريخيا، وكذلك المعتزلة في تأويلهم صفات التجسيم والتشبيه؟ ليست الوقائع التاريخية ووجود الأشخاص أصلا من أصول الدين، بل المعاني والدلالات كتصورات للعالم وبواعث للسلوك ومقاصد للتحقيق. ولما كان لا تواتر إلا في المحسوسات؛ لذلك لا يمكن إثبات حدوث العالم بالتواتر لأنه غير محسوس، إنما يمكن إثباته بالدليل العقلي، وإذا كان واضعو شروط التواتر وجامعو الأحاديث من الفرق الناجية، فإن هذا القياس الأول للتكفير «إنكار أصل شرعي معلوم بالتواتر» يظل سلاحا في الفرقة الناجية ضد الخصوم السياسيين.
3
أما القياس الثاني «إنكار ما علم صحته بالإجماع»، فإن الإجماع حجة غير قاطعة لورود شبه كثيرة، وإن تطابق العدد الكبير على رأي واحد لا يوجب إلا العلم الشرعي دون العلم النظري. ولا يشهد التواتر بحجية الإجماع؛ فهذا إثبات شيء بشيء آخر مطلوب إثباته، فيلزم التسلسل. لا يستند الإجماع إلى دليل شرعي متواتر، وإلا لما كانت هناك حاجة إلى الإجماع. وإنكار الإجماع دليل عقلي قطعي؛ لأن فيه تنازلا عن الرأي حتى تجتمع الآراء كلها على رأي واحد، وإن كان هناك تواتر فإنه يحتمل التأويل. ولا يمكن الحكم على تأويل النصوص بالإجماع؛ لأن الإجماع سابق على العقل، كما أن السنة سابقة على الإجماع، والكتاب سابق على السنة. لا يمكن إذن اتهام أحد بأنه خارق للإجماع؛ لأن الإجماع فيه شك، وهو المطلوب إثباته. إنما أتى إثبات الإجماع لناحية عملية صرفة، ولأن إنكاره يجر إلى «أمور شنيعة». وإذا كان الإجماع هو إجماع السابقين، وملزما لإجماع اللاحقين، فإنه يتحول إلى حجة سلطة في أيدي الفرقة الناجية. والأمثلة على إنكاره كلها قياسات إخراجية، مثل الخروج على الإجماع على اكتمال الوحي ونهاية النبوة. ويدل ذلك كله على أن مسائل علم أصول الدين تجد حلها في علم أصول الفقه.
4 (1) حقوق الأفراد
صفحة غير معروفة