وتستمر الإشكالات العقلية في كل تصور دون حل، خاصة في التصور الثنائي الأول. فإذا كان الخلق غير المخلوق، فهل يكون الخلق مخلوقا؟ وهنا يكتمل التصور الثنائي بتصور أحادي، فيكون الخلق مخلوقا هروبا من قدم العالم. فكل تصور مكمل للآخر، التغاير والتماثل، الاختلاف والاتفاق. ويدخل بعد الحقيقة والمجاز في التصورات؛ مما يدل على أنها جميعا صيغ إنشائية، وليست أحكاما على واقع، وإنما جميعا تقوم على قياس الغائب على الشاهد.
29
والعجيب أن الفرقة الناجية اختارت تصورا دون آخر على أنه التصور الحق، وهو أن خلق الشيء هو المخلوق اعتمادا على عدم جواز وجود واسطة بين الخالق والمخلوق؛ وبالتالي تكون أقرب إلى التصور الأحادي الطبيعي. وفي هذه الحالة لا يجوز تكفير المشبهة والمجسمة.
30
وكما لا يجوز تكفير أحد التصورين الإلهي والطبيعي، فإنه لا يجوز أيضا تكفير التصور الإنساني؛ فالخلق صفة إنسانية خالصة، بل إنها أولى صفات الإنسان، وأخص ما يميزه وما يعبر عن حريته. يبدو ذلك عند الفنان الخالق المبدع. ولكن الإنسان نظرا لاغترابه عن العالم وعجزه عن الدخول فيه، نسب إلى الذات المشخصة أفضل ما لديه، وتعبد صفة الخلق بدلا من ممارسته. أما العالم فإنه ينشأ في الشعور لحظة الوعي به؛ فقد لا يكون العالم موجودا على الإطلاق عندما يكون خارج الشعور، وقد يكون موجودا في إنسان لأنه نشأ في شعوره، وغير موجود بالنسبة إلى إنسان آخر لم يعه بعد. ليست النشأة إذن مادية كونية، فذاك موضوع علم نشأة الكون، بل نشأته في الشعور. السؤال عن النشأة الكونية نظرة مادية خالصة، في حين أن النشأة الشعورية نظرة إنسانية مثالية. الأولى ادعاء وغرور، والثانية تصف الواقع على ما هو عليه. (2) هل هناك تكفير في العقليات (الإلهيات)؟
تبدأ العقليات في علم العقائد بالأدلة على وجود الوعي الخالص (الله)، ثم بوصفه بأوصاف ستة ثم بصفات سبع، فهل هناك تكفير فيها؟ هل هناك رأي واحد صائب ناج بينما تكون الآراء كلها ضالة هالكة؟ فإذا كانت الأدلة كلها تبدأ من العالم، ومن تحليل الطبيعة ابتداء من نظرية الجوهر والأعراض، فما وجه الكفر في القول بأن الأعراض لا تدل على الباري؛ إذ كيف يدل الأدنى على الأعلى؟ وكيف تستعمل الأعراض للدلالة على الأجسام؟ وكيف تستعمل الطبيعيات كمقدمة للإلهيات؛ وبالتالي ربط الثوابت بالمتغيرات؟ بل إن رأي الفرقة الناجية بالإجماع على حدوث العالم ووجود الباري فيه تدمير للعالم لإثبات الله، وكأن الأعلى لا يثبت إلا بعد فناء الأدنى. وإذا كان النظر الصحيح هو المفضي إلى العلم بحدث العالم، فالعلم بحدث العالم ما هو إلا مقدمة لإثبات القديم؛ أي إنه النظر المفضي إلى الإلهيات عن طريق إثبات حدث العالم.
31
وهل يمكن البدء بالطبيعة والانتهاء منها إلى ماهيتها عن طريق الذهاب من الدليل إلى المدلول، ومن الآية إلى معناها؟ يتضمن العقل أوليات أو مقدمات هي التي تؤدي إلى التوحيد؛ فعلم التوحيد يقوم أساسا على نظرية في أوائل العقول وبداهاته. ليس التوحيد تشخيصا أو تجسيما أو تشبيها، بل هو بناء عقلي يقوم على مجموعة من المسلمات البديهية. التوحيد مجموعة من الحقائق الأولية تنشأ من طبيعة العقل، أو هو بناء أولي للعقل.
32
ولكن هل يفضي الإثبات بالدليل إلى إثبات المدلول أو إلى إثبات العلم بالمدلول؟ هل يؤدي الدليل على حدث العالم إلى حدث العلم نفسه أو إلى العلم بحدث العالم؟ ما دام الأمر متعلقا بنظرية العلم، فالدليل يؤدي إلى المدلول من حيث هو علم لا من حيث هو واقع؛ ومن ثم لا ينقسم المدلول إلى وجود وعدم أو قدم وحدوث، ولا يمكن أن تتحول نظرية العلم إلى نظرية وجود. وتكون تقسيمات الوجود هي تقسيمات العلم؛ أي أحكام عقلية على المعلوم.
صفحة غير معروفة