إن التفضيل بهذا المعنى هو حكم قيمي خالص، إسقاط من النفس على الواقع وعلى الأشياء. إنما الفضل يأتي بالاستحقاق بناء على عمل تكليف يتوافر فيه شرطاه؛ العقل والحرية. ويكون التفضيل في الأفعال بناء على عدة أوجه؛ فالتفضيل في ماهية العمل أن يكون العمل هو ماهية استكمال للفروض والنوافل، وألا يكون العمل هو غيره أو عملا بلا ماهية. ويكون فضل العمل بمقدار طهارة قصده وصدق نيته، خالصا لوجه الله دونما كسب خاص أو طلب مديح من الناس. ولا يتعارض صدق النية مع تحقيق المصالح العامة؛ لأن مقاصد الشرع ابتداء، والتي من أجلها وضع، تقوم على الحفاظ على الضروريات الخمس؛ الدين والنفس والعقل والعرض والمال. ويفضل العمل كيفا؛ أي استيفاؤه جميع حقوقه، ونقاؤه وعدم خلطه بأية شوائب، من صغائر أو كبائر. كما يفضل العمل كما ومقدارا، سواء كان فرضا أم نافلة، واجبا أم ندبا. وقد يفضل في الزمان مثل إتيان الصلوات في أوقاتها، فورا لا تراخيا، اقتضاء لا قضاء، في أول الوقت وليس في آخره خشية النسيان. وقد يعني ذلك الفضل في الأسبقية في الإسلام وفي الجهاد وفي التطوع وفي الصدقة، فالسابقون السابقون. ويفضل الفعل في المكان لا بمعنى الشيء، ولكن بمعنى الصحبة، كما تفضل الصلاة مع الفضلاء وأهل العلم نظرا لما يتبع ذلك من زيادة في العلم قبل الصلاة وبعدها دون أن يكون من بينهم نبي؛ نظرا لانتهاء النبوة واكتمال الوحي. أما فضل صلاة نبي على صلاة غير نبي فلا تعني إلا التركيز؛ وبالتالي ترجع إلى الفضل كيفا.
5 (2) التفضيل بداية الانهيار
فإذا كانت هناك مقاييس للتفضيل، فعلى من يتم تطبيقها في الأفراد أو في الجماعات أم الأمم؟ فإذا جاز تطبيقها في الأفراد، فمن هم؟ هل يدخل فيهم نساء النبي وبناته، أم يقتصر الأمر على خلفائه وصحبه؟ وإذا كان الفضل في الجماعات، فهل يكون الفضل للصحابة على التابعين، وللتابعين على تابعي التابعين؟ وإذا كان الفضل للقرون، فهل يكون للقرن الأول فالثاني فالثالث حتى نصل إلى قرننا فيكون أقل القرون فضلا؟ وإذا كان الفضل للعلماء وحدهم، فأي علماء، وفي أي علم؟ وإذا كان العلماء حراس الأمة فلا فرق بينهم وبين حراس الثغور، رفقة الفكر والسلاح. (2-1) هل هناك تفضيل في نساء النبي وبناته؟
إذا كانت القرابة للرسول نسبا ومصاهرة ليست مقياسا للتفضيل، فإن نساء النبي وبناته باعتبارهن من أقربائه أو من صلبه لا تنطبق عليهما مقاييس التفضيل، إنما يمكن اعتبارهن صحابة من أقربائه مثل باقي صحابة الرسول، أعملن علمه، ونقلن عنه، وشهدن الانتشار الأول للإسلام. القرابة ليست مقياسا للتفضيل، فهناك أقرباء للرسول لم يؤمنوا به ونافقوه وعادوه. هل إبراهيم صبيا أفضل من باقي الصحابة؟ وهل أمومة نساء النبي وبناته للمسلمين تقتضي لهن فضلا أكثر مما لسائر الأمهات بكون الجنة تحت أقدامهن بفعل الحمل والتربية والرعاية؟ وإذا لازمته نساء النبي وبناته النبي في حياته الخاصة والعامة، فإن الصحابة لازموه في حياته العامة، ولم يكن يخفي عنهم شيئا من حياته الخاصة. وإن الحياة العامة للرسول لأكثر أهمية للأمة من حياته الخاصة، مع أنها قدوة في السلوك. ولا تزيد نساء النبي وبناته في معرفة الشريعة عن الصحابة شيئا؛ فالكل لازمه وصاحبه واستمع إليه. والوحي تم تبليغه للعامة والخاصة، وهو الأساس. ليس لآل البيت فضل على الصحابة، وليس للرسول كرامة أو شفاعة بفعل قرابته لأحد أو قرابة أحد إليه. كل إنسان بعمله استحقاقا بما في ذلك الرسول نفسه. وكيف يكون لإبراهيم الفضل وهو الصبي الصغير الذي لم يبلغ الحلم على بنات النبي ونسائه لو كان للقربى فضل؟
6
وقد يتعارض هذا التفضيل مع بعض الأخبار الأخرى التي تجعل من الرجال البالغين كل الفضل دون الصبية الصغار؛ وبالتالي قد يرجع تفضيل الصبية على الذكور إلى وضعهم المتميز عند الأعراب على مستوى العواطف والمتعة. قد يكون سبب ذلك بعض التوجهات المعتمدة على بعض الأخبار والروايات التي تجعل للرجال على النساء درجة، أو التي تصف النساء بأنهن ناقصات عقل ودين، أو عدم فلاح القوم الذين يولون عليهم امرأة، ولكن أليست هذه الدرجة وهذا النقص وهذه القيادة في الدنيا لا في الآخرة لتدبير أمور المعاش، وليس لفضل في الثواب؟ وحتى لو صحت هذه التوجهات النقلية، هل يعني ذلك أن للصبي الذي لم يبلغ الحلم الفضل على النساء البالغات العاقلات اللاتي منهن حملة العلم، واللائي هن أفضل نساء العالمين؟ وإن لم تصح هذه التوجهات النقلية، فربما نشأ هذا الوضع في تفضيل النساء من رد فعل على وضعهن في الجاهلية. وإذا استمرت الجاهلية في بعض جوانبها، فقد يكون ذلك رد فعل على كبت وحرمان، سواء كان في الجاهلية أو ما بعدها في مجتمع الذكور. وقد يدل ذلك على تخلف عام في اعتبار النساء جنسا في مقابل الرجال كجنس آخر، وتتناوب المقابلة في التفضيل بين الأعلى والأدنى.
وكما دخلت الملائكة في تفضيل الأنبياء كذلك تدخل الحور العين مع تفضيل النساء والبنات، وكأن التفضيل ليس بين بشر، بل بين بشر وملائكة، وهو ما يخرج عن طاقة البشر. وإذا كانت وظيفة الحور العين متعة أهل الجنة، فهل يدخلن في التفضيل على المستوى نفسه مع نساء النبي وبناته؟ وكما أن الحور العين لسن حملة علم، وليس لهن فضل جهاد، فإن نساء النبي وبناته لسن لهن جمال الحور العين ولا حسنهن، ولا يشاركن في وظائفهن.
7
وعلى فرض إمكانية التفضيل بين الإناث، فأيهن أكثر فضلا، نساء النبي أم بناته؟ اللائي رافقنه في حياته وأصبحن جزءا منه روحا وبدنا، أم اللائي من صلبه وتربيته واللائي لهن حظ من صحبته ورفقته؟ وهل هناك مثل من حنت عليه لحظة نزول الوحي، والتي ظل يذكرها حتى آخر لحظة من العمر؟ وهل هناك مثل من أعطته حب الحياة، والتي أعادت إليه شبابه وعشقه؟ وهل هناك مثل من شغفته حبا بجمالها ونصاعتها وأنوثتها؟ ولكن هناك أيضا من صلبه من كان لها فضل العلم وزوجة الإمام الرابع، ومن صلبها خرج الأئمة أصحاب العلم والفضل. ولكن فضل الأئمة من صلبها لا يرجع إلى الأم وحدها، ابنة النبي، بقدر ما يرجع أيضا إلى الأب صهره وابن عمومته. وهل الفضل يكون للمجموعات والأصناف، نساء النبي أم بناته، أم للأفراد؟ فإذا كان للأفراد، فهل يكون للأفراد داخل كل مجموعة وصنف؛ ففي مجموعة النساء، هل الفضل للتي راعته وحنت عليه وقوته وشجعته وقت نزول الوحي، وأعطته عمرها ونضجها بعده، والتي كانت أم بناته، والتي لم يختلف معها يوما واحدا، وكان أمينا على أموالها وتجارتها؟ هل الفضل يرجع لمنافستها لصغر سنها وطفولتها وبراءتها، والتي أعطت حب الحياة، والتي عشقها، والتي أدخلت عليه السرور والفرح وهو في أواخر العمر بالرغم من نزول حديث الإفك بمناسبتها، ودخولها حربا ضد الصحابة، ومعاداتها للخليفتين الأول والثاني، ومحاربتها الخليفة الرابع؟ هل الفضل يرجع إلى من كانت بمثابة الأنثى والتي أعطته متعة الحياة ومباهجها؟ ولماذا من البنات لم تبرز إلا واحدة، وهي زوجة الخليفة الرابع، دون غيرها؟ هل يرجع الفضل في ذلك إلى زوجها لأنها كانت أقرب بناته إليه؟ وهل بين البنات من هو أقرب إلى قلب الأب؟ إن العواطف لا تنقسم حسابيا وتوزع رياضيا بالتساوي، سواء من الأبناء أم مع الزوجات. أما التوجيهات النقلية فما أكثرها في كل زوجة وفي كل ابنة، سواء صحت روايتها أم ضعفت، كما هو الحال في الصحابة والأخبار المروية في فضلهم. وماذا عن نصوص الوحي التي تجعل «مريم» أفضل نساء العالمين؟ وماذا عن باقي نساء الأنبياء مثل امرأة لوط، أو حتى عن باقي نساء العالمين اللاتي شهد لهن الوحي بالفضل والعواطف الإنسانية مثل امرأة فرعون؟ وماذا عن أمهات الأنبياء اللائي شهد الوحي لبعضهن بالفضل مثل أم موسى؟ ألم يذكر آخر الأنبياء أيضا أمه والتي لا يتذكرها بالمدح والثناء؟ إن دخول ذلك كله في العقائد المتأخرة يجعل الموضوع كله تعبيرا عن تخلف الأمة، وأنها جعلت من اللاعقائد أساسا للعقائد، وتركت التوحيد للتفضيل بين نساء النبي وبناته! وقد تدخل نساء الصحابة في التفضيل مع نساء الأنبياء ونساء النبي وبناته، وكأن الأمر مسابقة جماعية في الفضل بين النسوة!
8 (2-2) هل هناك تفضيل بين الخلفاء الأربعة؟
صفحة غير معروفة