ولا تؤدي بالضرورة التفرقة بين الحركة الاضطرارية والحركة الاختيارية إلى أن القدرة قد تفارق الأولى بينما فارقت الثانية. لا تثبت هذه التفرقة مقارنة القدرة وقت إثباتها وتقدمها. وليس إثبات المقارنة بأولى من إثبات المفارقة؛ فكلاهما واقع، وليس لأحدهما حجة زائدة على الآخر. والقول بأنه يستحيل وقوع الفعل عند عدم القدرة؛ وبالتالي يجب الفعل عند وجودهما، فالاستحالة والوجوب طرفا نقيض لا يمكن الجمع بينهما هو خلط بين الصحة والوجوب. فنقيض الاستحالة هو الصحة لا الوجوب. إذا كان الإنسان قادرا على فعل يصح منه الفعل ولا يوجب بتدخل قدرة خارجية مقارنة للفعل.
171
أما القول بأنه لو استحال الفعل بالقدرة في الحال، فإن هذه الاستحالة لا ترجع إلى القدرة لأنها موجودة، ولا إلى المقدور لأنه مقدور، بل لاستحالة المقارنة؛ مما يثبت عدم الارتباط الضروري بين القدرة والمقدور؛ وبالتالي تنتفي القدرة قبل الفعل، وتحل فيه وقت وقوعه. هذا القول يتحدث عن استحالة افتراضية وليس استحالة واقعة بالفعل. فما دامت القدرة موجودة، وما دام المقدور داخل حدود الطاقة، وامتنعت الموانع فلا استحالة هناك، ولا حاجة إلى قدرة مقارنة تجعل الفعل واقعا. وإن استحالة الفعل فإما لأنه لا قدرة هناك، أو لعدم وجود باعث أو غاية، أو لوجود مانع بدني أو نفسي أو اجتماعي. ولا تعني الاستحالة في الحال الاستحالة في كل حال؛ بدليل الفعل المتولد. هناك أحكام عقلية عديدة في الاستحالة قد لا تطابق استحالة فعلية؛ فاستحالة المؤله المشخص على فعل ما لم تزل استحالة تنال من الإطلاق وإن كانت حكما. ومع ذلك فلا شيء يحدث بلا سبب. وإن استحال الفعل فهناك سبب للاستحالة وإن لم يكن بالضرورة حكما عقليا؛ فالأحكام العقلية هي نفسها علل واقعية.
172
والقول بأنه لو جاز الفعل بالقدرة المتقدمة لجاز بالقدرة المعدومة، بل ويجوز في حالة العجز قول مستحيل وافتراض نظري صوري صرف؛ لأن الفعل لا يجوز بقدرة معدومة، خاصة إذا كان الفعل الأول. أما الفعل المتولد، فإنه يجوز بقدرة معدومة؛ لأن القدرة في هذه الحالة وإن عدمت من ناحية البدن والمباشرة، فإنها تظل باقية من حيث المعنى والأثر، والقدرة هي الأثر.
173
فإن قيل: لو جاز أن تكون القدرة متقدمة لمقدورها في وقت لجاز أن تكون متقدمة في أوقات كثيرة، وهذا يقتضي التكليف والاحترام وعدم استحقاق المدح والذم قيل إن التقدم بأوقات كثيرة مشروط بحياة الإنسان. فالقادر على الفكر لا تتقدم قدرته حتى ترجع إلى عهد الصبا، والقادر على الحركة لا تتقدم قدرته حتى ترجع إلى المهد. إن القادر على الفعل تتقدم قدرته في الحقيقة في دور حياته المحقق لهذا الفعل؛ فالتكليف مشروط بالحياة، واستحقاق الذم والمدح مشروط بتحقيق الأفعال المشروطة بالإنسان الحي.
174
يكفي تقدم القدرة المعينة على الفعل الخاص في موقف معين وليس افتراض أمور نظرية لا وجود لها إلا افتراضا وكأن الفكر الديني مهمته تبخير الوقائع والقضاء على الأفعال لحساب القدم المطلق والبقاء المطلق والتسلسل إلى ما لا نهاية من البداية أو من النهاية.
إن احتياج الفعل إلى القدرة ليس كاحتياجه إلى الآلة حيث تجب فيها المقارنة؛ لأن الآلات تنقسم إلى متقدمة ومقارنة. وليس تمثيل القدرة بالآلة المقارنة أولى من تمثيلها بالآلة المتقدمة.
صفحة غير معروفة