لقد أصبح موضوع الحرية، ابتداء من القرن السادس بعد ظهور الفلسفة وكأنها الخطر الداخلي على التوحيد بعد درء الأخطار الخارجية، أخطار التأليه والتجسيم والتشبيه؛ أصبح موضوعا للإلهيات والطبيعيات وليس موضوعا للإنسانيات، أي حرية الاختيار كأساس للتكليف. وأصبحت مسألة الحرية في الخلق والإيجاد موضوعا طبيعيا وليس موضوعا إنسانيا. ولكن ظل الله في كلتا الحالتين هو الطرف المقابل لفعل الإنسان الخارجي في العالم وفي الطبيعة. فإذا كانت الإرادة هي التي تهدد حرية أفعال الشعور الداخلية، فإن القدرة هي التي تهدد حرية أفعال الشعور الخارجية. الإرادة في صلة مع أفعال القلوب والقدرة في صلة مع أفعال الجوارح. الإرادة في علاقة الله بالإنسان، والقدرة في علاقة الإنسان مع الطبيعة. القدرة القديمة وحدها هي القادرة على إحداث الأجسام؛ فالحادث لا يصدر من حادث؛ لذلك ارتبط الموضوع بحدوث العالم. والتفرقة بين الحركة الإرادية والحركة اللاإرادية لا تثبت القدرة القديمة بدليل الحركة اللاإرادية دون الحادثة بدليل الحركة الإرادية؛ مما يدل على أن كل مذهب يأخذ من التجربة ما يتفق معه ومع مسلماته وأحكامه المسبقة.
48 (8)
وحدوث الترجيح بين البواعث لا يعني تدخل إرادة خارجية أحدثت هذا الترجيح، خاصة لو كان المرجح يحتاج إلى مرجح، وهذا إلى ثالث. وما دام لا يمكن التسلسل إلى ما لا نهاية، فيجب الانتهاء عند المؤله المشخص. فبالإضافة إلى أن هذا تفكير دائري، أي أنه مجرد عاطفة أو انفعال سابق على التفكير، يظهر التفكير فيه على أنه مجرد حركة للرجوع إلى الوراء. والتفكير العلمي في مساره تفكير إلى الأمام وإلى الكشف عن المجهول. وإن احتياج الفعل إلى مرجح كي يحدث لا يعني حدوث هذا المرجح من الخارج، بل يتم بمقارنة البواعث أيهما أقوى ثم اتباع الباعث الأقوى أو بمقارنة غاية كل فعل مع غاية الآخر ومعرفة أيهما أكثر قيمة وثباتا أو بالرجوع إلى المصلحة العامة التي ينتهي إليها التسلسل، وهذا كله لا يحدث بطريقة صورية. لا يحدث بأن يجد الإنسان نفسه محايدا بين فعلين منتظرا لمرجح يوجهه نحو الأول أو نحو الثاني، بل يتبع الإنسان طبيعته وتكوينه ودعوته وغايته. الاختيار بين فعلين في الحقيقة ليس اختيارا حسابيا، بل هو اختيار قائم على الباعث الأقوى في الحياة.
49 (1-4) نقد الجبر
الحقيقة أنه يصعب التفرقة بين الأسس والنتائج والمخاطر والأخطاء للجبر، سواء في أفعال الشعور الداخلية أو في أفعال الشعور الخارجية؛ فهي كلها متداخلة فيما بينها؛ فالأسس هي الحجج، والنتائج هي المخاطر، والأخطاء هي تفنيد الحجج. لذلك وضع الكل تحت موضوع واحد وهو «نقد» الجبر.
والأسس العقلية التي يقوم عليها الجبر أسس ضعيفة بدليل تفنيد أصحاب الكسب لها مع أن الكسب والجبر يعتمدان على الأسس العقلية نفسها، ومنها تشخيص عواطف التأليه وإثبات قدرة خارجية تتدخل في فعل الإنسان وإنكار استقلال الإنسان في فعله. وكذلك بدليل تفنيد أنصار خلق الأفعال له وهو تفنيد موجه أيضا لنظرية الكسب لاشتراكها في الأسس العقلية نفسها التي يقوم عليها الجبر. مع أنه في عقيدة القضاء والقدر يضيع الكسب ولا يمكن القول بهما معا؛ فهما بمثابة الإخوة الأعداء. ويمكن نقد هذه الأسس على النحو التالي: (1)
إثبات ذات مشخص مؤله قادر قدرة مطلقة وعالم علما شاملا يبطل كونه حكيما صادقا. وتصبح أوصافه سفيها ظالما كاذبا لأنه يفعل الظلم ويجبر الإنسان على أفعاله ويحاسبه، يسلبه حريته ويكلفه.
50
وهو في الحقيقة تشخيص عواطف التأليه ثم تصور وجود شخص مؤله له قدرة شاملة وعلم محيط يتدخل في حوادث الكون ويتحكم في مصائر البشر ويوجه أفعال الإنسان كحق مطلق وكواقع مثبت. يستطيع أن يفعل أي شيء أراده الإنسان أم لم يرده، يستطيع أن يمنع أي شيء من الوقوع أراد الإنسان حدوثه أم لم يرده، يستطيع أن يعدم الإنسان ذاته بعد وجوده وأن يوجده بعد عدمه. لا يبقى أمام سلطاته قانون ثابت، ولا عالم قائم. كل شيء يخضع لإرادته ومشيئته. يستطيع أن يجعل الثلج نارا، والنار ثلجا، أو أن يقلب الحجر ذهبا والعصا ثعبانا، وأن يطلق الأشياء في الهواء دون أن تقع، وأن يوقف السهم في الجو دون أن يصيب، وأن يعاقب المحسن ويثيب المسيء، لا راد لحكمه ولا رافع لقضائه. ما دامت هذه هي البداية فيستحيل إثبات فعل الإنسان الحر وإرادته المستقلة لأن البداية بداية نظرية وليست أمرا واقعا. وهي مقدمة تشمل الموقف والنتيجة معا ولا يمكن بعدها إثبات شيء لأنها تتعلق بالشرعية الأولية والحق النظري الأول. هي بداية تحتوي على حل مسبق هو إلغاء وجود الإنسان المستقل وفعله الحر. وبالتالي فالجبر ليس وصفا للفعل الإنساني بقدر ما هو قرار مسبق مبني على شرعية أولية هي في الوقت نفسه أساس كوني. وقد فرق الفقهاء من قبل بين إرادة التكوين وإرادة التشريع، الأولى كونية لا مرد لها، والثانية تشريعية تعطي الأمر ولا توجبه، وتفسح المجال أمام الإنسان للفعل الحر والإرادة المستقلة.
حينئذ يكون السؤال: ماذا يبقى من الإنسان لو عدم وجوده؟ ماذا يبقى منه لو قضى على فعله؟ ماذا يبقى منه لو سلبت حريته؟ ولحساب من؟ ولما كنا نعلم من التوحيد أن عواطف التأليه هي في أساسها عواطف تنشأ في ظروف اجتماعية معينة؛ إذ ينشأ التأليه والتجسيم في مجتمع مضطهد على درجات مختلفة من الاضطهاد، كما ينشأ التنزيه والتشبيه في مجتمع منتصر بصورتين مختلفتين: الأولى تثبت البؤرة المركزية المتعالية، والثانية تثبت سيطرتها على الواقع بالفعل، كذلك فإن إثبات الجبر يؤدي إلى إثبات السلطة في المجتمع المنتصر وإقامتها على الشرعية الأولى. ومع ذلك، وكما يحدث في المجتمعات المضطهدة، يتحول الجبر الإلهي الكوني إلى جبر ذاتي باطني، أي حتمية تحقيق الإنسان لرسالته في الحياة، وضرورة تحقيق عالم الفضيلة كتعبير عن كمال الطبيعة، ويتحول إلى عملية تحرر للإنسان وللكون معا. (2)
صفحة غير معروفة