4
وبطبيعة الحال لا يوصف فعل الله بالحسن والقبح بهذا المعنى لتنزهه عن الغرض وأنه لا تجري عليه الملاءمة والمنافرة، وبالتالي فهي صفات للأفعال الإنسانية. ويدل ذلك على ضرورة إثبات الحرية قبل العقل، والاختيار قبل الحسن والقبح. وهي النظرية نفسها التي سادت في كبرى الحركات الإصلاحية الحديثة مع تأسيسها على العقل والبداهة والوجدان، بالإضافة إلى الجمع بين القيم الثلاث: الحق والخير والجمال. فالحسن هو الجميل والنافع والخير، والقبيح هو القبيح والضار والشرير. وهذا هو الذي يميز بين الإنسان والحيوان.
5
الحسن والقبح خبرتان حسيتان وعقليتان معا. هناك الحسن والقبح الحسيان في الجمال وفي الطبيعة، والحسن والقبح المعنويان في السلوك والعلاقات الإنسانية، وتتراوح مراتب الحسن والقبح. فالحسن الحسي قد يكون قبحا معنويا مثل الإفراط في الطعام، والحسن المعنوي قد يكون قبحا حسيا مثل مشاق العمل. ينطبق الحسن والقبح على الأفعال كما ينطبقان على الأشياء. فإن كان الحسن والقبح هما اللذيذ والمؤلم أو النافع والضار، فهما إحساسان بديهيان يشارك فيهما كل موجود حي يتميز بهما الإنسان عن الحيوان، خاصة قوة الوجدان ومرتبة الجمال والقبح. لقد عرف العقل البشري هذا التمييز بين الضار والنافع، بين الشر والخير، بين الرذيلة والفضيلة، وهو تمييز يقوم النظر به نظرا للتفاوت الفكري بين العقول. بهما شقاء الإنسان وسعادته، وقام عليهما العمران البشري.
ويمتاز هذا التعريف بأنه مادي حسي قريب، يجعل الحسن والقبح قريبين من الأفعال وواقعين في الحياة المادية بعيدا عن الصورية والشرعية والقانونية، وعلى عكس النظريات الكونية الأسطورية، كما أنه تعريف غائي نظرا لأن الملاءمة والمنافرة طبقا للغاية. فالفعل المحايد فعل عابث، خال من الغاية، بل إنه لا يسمى فعل؛ لأن الفعل هو بالضرورة الفعل الغائي، وهو تعريف إنساني خالص يجعل الحسن والقبح إنسانيين، لا يصفان أفعال الله أو أفعال الجمادات، بل أفعال الإنسان.
6
ولكن عيوب هذا التعريف أكثر؛ فهو تعريف فردي يجعل الفرد هو مدرك الحسن والقبح دون الجماعة، في حين أن الحسن والقبح إدراك جماعي ووجود في التاريخ. يوقع هذا التعريف في الفردية، وليس القبح الفردي قبحا عينيا. ثم يحدث بعد ذلك خطأ في التعميم والانتقال من الفردي إلى العام ومن الجزء إلى الكل، بل إن الفرد ذاته قد يتغير من حال إلى حال طبقا لأحواله النفسية ويغير احتياجاته ومصالحه وأهدافه طبقا لمراحل عمره وأوضاعه الاجتماعية. بل وتتغير طبقا لإدراك الفرد من حين إلى حين وانتقال الأحكام من الغموض إلى الوضوح، ومن الخفاء إلى الجلاء أو العكس.
7
وهو تعريف نسبي وذلك لأن الملاءمة والمنافرة تختلف باختلاف الأفراد والجماعات والعصور والأمكنة، وليس لهما أساس موضوعي شامل، كما أن الغاية هي الوجود والطبيعة والتاريخ، ولا تأتي فقط من نسبية الأهواء والانفعالات والمصالح. هي أقرب إلى المبادئ العامة والغايات القصوى. وهي تعريف مادي يقصر الحسن والقبح على اللذيذ والمؤلم وعلى الضار والنافع وعلى المصلحة والمفسدة وعلى الملائم والمنافر دون أن يكون له أساس عقلي. فالغرض ليس بالضرورة الغرض المادي المباشر، بل قد يكون تحقيق الغاية والرسالة في الحياة. وقد دعا ذلك إحدى الحركات الإصلاحية إلى تأسيس التعريف القديم على العقل حتى يكون أكثر تأسيسا وثباتا وشمولا، ولا تنقسم الغاية إلى دنيا وآخرة، الغاية واحدة تهدف إلى الحفاظ على الوجود الإنساني الذي هو وجود مستمر من خلال الأفراد. الحياة واحدة والغاية واحدة. ولا يوجد في التعريف ترتيب للغايات أو سلم للقيم؛ إذ تترتب الغايات بين ما هو قصير المدى وما هو بعيد المدى أو بين أغراض محددة وأغراض شاملة أو أغراض خاصة وأغراض عامة. وهو تعريف ذاتي غير موضوعي يقضي على موضوعية الصفات ووجودها في الأشياء، ويبرر غضب الناس إن لم يوافق الفعل أغراضهم. والصفات العينية ليست فقط صفات نفسية، بل هي صفات طبيعية للأشياء وتعبر عن أوضاع اجتماعية. وهي أيضا صفات للأفعال ليست قائمة على الوهم والارتباطات الشرطية، بل تحددها الغايات وتؤسسها الطبيعة. فموضوعيتها مؤسسة بالعقل والغاية والطبيعة، في الذهن الإنساني وفي ميدان القيم وفي عالم الطبيعة.
8
صفحة غير معروفة