هذا هو الجدل التاريخي السائد في معظم موضوعات علم الكلام من الفعل إلى رد الفعل ثم إلى المركب من الفعل ورد الفعل. حدث هذا في التوحيد، في التشبيه ثم التنزيه ثم إثبات الصفات بلا كيف. ولكن من الناحية النظرية الخالصة بدءا من النظريات غير المؤسسة إلى النظرية المؤسسة يبدأ الجبر باعتباره أقل النظريات الثلاث تأسيسا ثم يتلوه الكسب باعتباره أيضا أقل النظريات الثلاث تأسيسا، ثم يأتي في النهاية خلق الأفعال باعتباره أكثر النظريات تأسيسا. ويرتب القدماء المذاهب طبقا لرأيهم الخاص ابتداء من الكسب ثم الجبر ثم خلق الأفعال بما يدل على أن الجبر أقرب إلى الكسب وأن خلق الأفعال أبعد منه.
46
ولكن من الناحية الوصفية الصرفة تبدأ نظرية الجبر التي يسهل رفضها بتحليل تجارب الإنسان الحية للفعل. تتلوها نظرية الكسب التي تظل في إطار الجبر وتنشأ بدافعها الأول وهو الدفاع عن حق الله والاعتراف بحق الإنسان، ولكن من أجل الدفاع عن حق الله. وأخيرا يأتي خلق الأفعال باعتباره أقرب النظريات إلى التجارب البشرية، بداهتها وصراحتها وطبقا لمقتضيات العقل والمسئولية. وهذا الوصف يجعل طرفي النقيض أولا وثالثا، والتوسط ثانيا، وهو معارض للجدل التاريخي الذي يبدأ بالجبر ثم بخلق الأفعال ثم بالكسب. ثم تظهر هذه النظريات الثلاث في أفعال الشعور الداخلية ثم الهداية والضلال، والتوفيق والخذلان، والإيمان والكفر، ثم في أفعال الشعور العامة كالحركة والسكون والقيام والقعود، أي في الحركات والسكنات الإرادية التي تشارك فيها الأعضاء وهي أفعال الجوارح التي عناها القدماء في تحليلهم للأفعال والتي منها خرجت النظريات الثلاث، ثم في أفعال الشعور الخارجية في الطبيعة التي تظهر فيها قضية التوليد واعتباره نتيجة ثانية للأفعال في الخارج وليس إلى الداخل، استمرارا للأفعال في الطبيعة سواء في الحركة أو السكون أو الاعتماد والأكوان أو التأليف والتحليل أو في آثار الأفعال المعنوية كالسنن والتقاليد وأثرها في الأجيال التالية وهو ما لم يفصل فيه القدماء لتركيزهم على أفعال الشعور في الطبيعة وحدها. وهذا الترتيب يبدأ من الداخل إلى الخارج، واصفا أفعال الشعور من العمق إلى السطح، ومن الباطن إلى الظاهر؛ ومن ثم يكون بناء الموضوع رباعيا: أفعال الشعور الداخلية، أفعال الشعور الخارجية، أفعال الشعور في الطبيعة، أفعال الوعي الفردي والاجتماعي.
ثانيا: أفعال الشعور الداخلية
الأفعال نوعان: أفعال الشعور وأفعال البدن، الأفعال الداخلية والأفعال الخارجية. وقد سمى القدماء أفعال الشعور أفعال القلب، وأفعال البدن أفعال الجوارح. والقلب ليس آلة عضوية، بل يشير إلى حياة الشعور الداخلية، وهي أفعال لا محل لها، على عكس الجوارح التي في محل سواء في الآلة، اليد أو الرجل أو الرأس، أو في محل الفعل. وبالتالي ارتبطت أفعال الجوارح بالاعتمادات والأكوان والمماسات والحركات والسكنات وكل ما يتعلق بتوليد الأفعال.
1 (1) هل أفعال الشعور الداخلية أفعال جبرية؟
وأفعال الشعور أفعال مثل أفعال الجوارح، تنطبق عليها مقولات خلق الأفعال مثل الحركة والجبر.
2
وأول إيهام بالجبر إنما يأتي من إثبات الصفات والأسماء، خاصة صفات الفعل وأسماء الفعل المؤثرة في العالم مثل الإرادة والمشيئة والأمر والقدرة والخلق والإذن والتكليف والعلم والسخط والغضب. وما دام الأمر وضع على هذا النحو فمن الطبيعي ألا تكون هناك حرية أفعال على الإطلاق، سواء أفعال الشعور الداخلية أو أفعال الشعور الخارجية. ومن الطبيعي أن يحدث ذلك ما دامت هناك صفات مطلقة لا يقوى الإنسان أمامها شيئا، وما دام الإنسان قد وضع في مقابل الله من أجل معرفة أيهما أقدر! وكأن الحرية تتمثل في علاقة فعل الإنسان وإرادة الله وقدرته وعلمه، وليس بعلاقة فعل الإنسان في العالم، وتحقق إرادته في موقف. وقد نشأ الطرف الآخر متعاليا؛ نظرا لاغتراب الإنسان عن عالمه وإسقاطه العالم من الحساب وإيجاده بديلا آخر خارج العالم، فترك العالم إلى الله كما يترك الدنيا إلى الآخرة، يعيش خارج الدنيا، ويعيش في الآخرة قبل الأوان، يضع الدنيا آخر الزمان، ويحضر الآخرة أول الزمان، ويعيش مع الله قبل تحقيق الرسالة، وهو لم يفعل بعد ولم يستحق شيئا. يأخذ النتيجة بلا مقدمات، ويحصل على الثمرة بلا جهد، فتأتي غير ناضجة، مرة المذاق. إن إثبات صفات وأفعال زائدة على الذات يعطي للذات فاعلية مطلقة في العالم، تبدو لها من خلال الصفات والأفعال في مسار الطبيعة والفعل الإنساني. ومن ثم لا يكون الفعل الإنساني حرا لأنه خاضع إلى حرية أكبر تتدخل في مساره وفي مسار الطبيعة على حد سواء.
3
صفحة غير معروفة