من العقيدة إلى الثورة (٣): العدل

حسن حنفي ت. 1443 هجري
145

من العقيدة إلى الثورة (٣): العدل

تصانيف

لولا أسباب الموت لكان ممكن للإنسان أن يعيش أكثر، ولولا الجوع وحوادث الطريق والأمراض لعاشت كثير من الشعوب، ولقلت نسبة الوفيات وزادت نسبة الأحياء، وبالصحة ترتفع نسبة المعمرين، المقتول غير ميت لأن الموت من الله أو من القاتل وكان يمكنه أن يحيا، المقتول مقطوع عليه أجله، فوجب على القاتل أن يقطع عليه أجله في القصاص، لو لم يقتل الإنسان لما مات في ذلك الوقت، ولا يمكن أن يموت الإنسان بلا قتل، إن معنى أن تزيد الطاعات في العمر أن وفرة الصحة والسعادة تطيل في العمر؛ فالطاعات سبب أول يؤدي إلى أسباب أخرى ثانية مثل الاستيقاظ المبكر للصلاة، وعدم التخمة والصوم، والاطمئنان الداخلي؛ أي الصحة النفسية، أما في أصل الوحي فيتدرج الأجل من الأجل بين الزوجين إلى أجل الدين إلى أجل الفرد في عمره إلى أجل الأمة وحياتها في التاريخ إلى أجل الكون كله وانتهاء الزمان.

54 (2-2) الأرزاق

ليس خلق الأفعال مسألة فلسفية نظرية خالصة، بل يتعداها إلى موضوعات عملية ترتبط بمصالح الناس مثل الرزق والكسب والمال والسوق والأسعار والغنى والفقر، إلا أن موضوع الأرزاق أهم من موضوع الآجال؛ لأن قدرة الإنسان على السيطرة على الحياة والموت محدودة نظرا لتشابك وجوده في عديد من العلاقات البدنية والبيئية والاجتماعية، أما الأرزاق فللإنسان قدرة أعظم للسيطرة عليها، وإذا كانت الآجال، على أكثر تقدير، أقرب إلى الإرادة الإلهية، فإن الأرزاق على أقل تقدير أقرب إلى الأفعال الإنسانية، والعجيب أن يعتبرها القدماء غير مهمة وهي موطن الصلة بين التوحيد والنشاط الاقتصادي، والانتقال من توحيد الذات والصفات والأفعال إلى توحيد الثورة والمجتمع والنشاط الإنساني والإنسان في العالم.

55

ومع ذلك يذكرها القدماء وكأنها من أفعال الله بقضاء الله وقدره! وأن كل المصائب والمحن والشدائد وما يصيب الإنسان من فقر وبؤس وحرمان كلها بتقدير الله وقضائه، وكيف يكون الرزق بقضاء الله وقدره وليس بجهد العباد في إطار النظام الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي يوجد فيه الإنسان؟ ولما كانت جماهير الأمة فقيرة وبائسة ومحرومة يضرب بها المثل بالقحط وسوء التغذية والجوع، وتصنف ضمن الشعوب المتخلفة أو العالم الرابع، أي عالم ما تحت خط الفقر، فإن جعل الرزق بقضاء الله وقدره تبرير للفقر والبؤس والحرمان وقبول للضنك وشظف العيش، ولماذا تكون جماهير الأمة ضحية القضاء والقدر ويكون الحكام من محظياته؟ إن ذلك يؤدي لا محالة إلى الإبقاء على الأوضاع القائمة من استغلال وفقر واحتكار وتفاوت شديد بين الطبقات والقضاء على أية إمكانية في التغيير وتحقيق العدالة بين الناس وتطبيق النظام الاقتصادي والسياسي والاجتماعي للشريعة، وهنا تكون العقيدة ضد الشريعة وليس أصلا لها، وتكون الأوضاع الاجتماعية مناهضة للشريعة والعقيدة معا. والقضية من جديد هي العلة الأولى التي تعلق عليها أخطاء البشر والتي تمثلها الأقلية ضد الأغلبية في مواجهة العلل الثانية التي تعجز الأغلبية حتى عن تمثلها.

56

ولتثبيت ذلك إلى الأبد تكتب الأرزاق في «اللوح المحفوظ» الذي لا يمحي فيه شيء؛ فلا يمكن الزيادة في الرزق أو النقصان منه، زيادة رزق الفقير والنقصان من رزق الغني؛ فالله هو الخالق والرازق، وكأن الخلق هو الرزق مع أن الخلق حق الله والرزق حق الإنسان، لله كل شيء وللإنسان بعض الشيء، وبالرغم من أن الله هو الرازق الحق للخلق وأن السلطان هو الرازق بالمجاز للرعية والأمير هو الرازق بالمجاز، إلا أنه ما أسهل التوحيد بين الله والسلطان والأمير، وما أسهل أن تتحول الحقيقة إلى مجاز والمجاز إلى حقيقة، خاصة في نظام يعتمد على حجة النقل والتأويل الحرفي للنصوص، وأن الاستدلال بالنقل على أن الأرزاق مقسومة تمنع الفقير من المطالبة بحقه في مال الغني، فتفسير النص موكول لفقيه السلطان.

فإذا ما كان لجهد الإنسان دور في تحديد رزقه، فإن هذا الجهد لا يظهر في أفعال التقوى أو الفجور، فيزداد رزق التقي ويقل رزق الفاجر، بل في الأفعال الاقتصادية من إنتاج وربح ومشاركة وأجر؛ فالأخلاق في باطن الاقتصاد وليست بديلا عنه، وإن تصور الأخلاق بديلا عن الاقتصاد هو حل للقضية الاجتماعية عن طريق الأخلاق الفردية دون ما تغيير بجوهر النظام الاجتماعي، وإن الإقرار بالظلم لا يكفي للتغير الاجتماعي، فقد ينتج عنه مجرد الندم دون تغير اجتماعي أو ثورة، وإن عدم استيفاء الرزق لا يكون بالضرورة مشروطا بالموت، فهناك من الأحياء ما لا تستوفى أرزاقهم؛ ومن ثم فلا سبيل لهم إلا الموت انتظارا لاستيفاء الرزق!

57

وقد تحول ذلك كله إلى دين شعبي يؤمن به الناس، فقد تحولت عقيدة السلطة إلى عقائد الجماهير بفعل السيطرة على أجهزة الإعلام وتوجيه التربية الدينية في المدارس، وحتى في هذا الاعتراف بالزيادة والنقص في جهد الإنسان، هل الموضوع دراسة علمية للدخول والأجور أم مجرد تمرين عقلي مقلوب لإظهار القدرة الإنسانية في مقابل القدرة الإلهية، كرد فعل على اعتبارها من أفعال الله وليست من أفعال الإنسان نتيجة لعمله وأنماط الإنتاج في مجتمعه وتوزيع الدخل القومي فيه وسياسة الأجور ونوع النظام الاقتصادي؟ وإذا كانت الأرزاق من أفعال الله، فكيف يقتر الرزق على المؤمنين ويبسطه على الكافرين؟ وهل بسطه الرزق لدى المؤمنين وضيقه على الكافرين من الله؟ وهل زيادة رزق المؤمن من ممارسته للشعائر والعبادات وأدائه للصلوات وذهابه مع الحجيج سبع مرات؟ إن الأرزاق أوضاع اجتماعية وسياسية واقتصادية لها قوانينها في أحوال المعاش كما يبدو ذلك في أصل الوحي وتنظيمه لسيولة الأموال في المجتمع، ويعتمد القدماء على الحجج النقلية دون العقلية حتى يمكنهم الارتكان إلى حجة السلطة وإبعاد العقل عما يمس الناس ومعاشهم طالما أن فقيه السلطان هو المفسر الأعظم لنصوص الوحي!

صفحة غير معروفة