والحقيقة أن هذه التفرقة لا تقوم على أساس واضح، فما هو الإيمان وما هو الكفر؟ تصوران يصعب تحديدهما، وبالتالي يكون ذلك بمثابة توضيح مسألة بمسألة أخرى أكثر منها غموضا، كما أنها تفرقة قد تثبت الضرر الفعلي للإنسان وتجعل المؤله مصدرا للضرر، وهو ما يتنافى مع عواطف التأليه في أن الله مصدر للنعمة والعفو والرحمة، وهي أيضا تفرقة لا يقوم بها إلا من استحق المدح حتى يستأثر بالنعمة بمفرده ويفرح بأضرار الغير، فهي قسمة إذن تقوم على إحساس «صادي»، حب الذات، وكراهية للغير. وقد يتم الجمع بين الإثبات والنفي بالتفرقة في ميدان الضرر، فالضرر لا يقع في الدين بل في الدنيا، ولا يقع في عالم الأرواح بل في عالم الأبدان.
35
والحقيقة أن هذه القسمة أيضا تثبت الضرر، وتجعل الله أيضا مصدرا للشر، وتواري عنه صفات الرحمة والعفو كما تقتضي بذلك عواطف التأليه؛ وهي قسمة تثبت الضرر المادي مع أن الضرر المادي ليس أقسى أنواع العذاب، بل هو مجرد تخويف في الدنيا من السلطان لحرص الناس على مصالحه في الدنيا، وهي أيضا نظرية صادية تقوم على التلذذ بتعذيب بدن الآخرين، إن هذه الأسئلة التقليدية حول موقف قدرة الله ممن علم أنه لا يؤمن تضع صفتين مطلقتين كاملتين؛ القدرة والعلم موضع تعارض تمرينا للذهن في عملية التأليه، وتثير إشكالات أعظم مما تحل التمرين، وإذا كان الرد بالإيجاب فكيف لا تمنع القدرة المطلقة الكاملة الإنسان من فعل الشر؟ وكيف يخص الله أحدا بنعمة الإيمان ابتداء ولا يخص الآخر قبل انقضاء الحياة ونفاد تجربة العمر؟ ألا يؤدي ذلك إلى الاختيار المسبق بلا سبب وإلى الاختيار العشوائي، وبالتالي يؤدي إلى التحيز وعدم تكافؤ الفرص.
36
ويكون السؤال أصعب عندما يكون: هل يجوز القول: أنا مؤمن «إن شاء الله»؟ هل يجوز الاستثناء في الإيمان؟ هل يمكن أن يقال «أنا مؤمن حقا» في الحال دون الاستقبال؟ إن تعليق الإيمان في الحال أو في الاستقبال هو وقوع في الشك وعدم الثقة بالنفس وربط أفعال الشعور الفردية بأسس خارجية، وبالتالي تضعف القناعات ويحدث التردد في الأفعال، والثقة في التخطيط تجعل الإنسان قادرا على أن يرى المستقبل دون شك أو تردد مع توقع عوامل غير متوقعة قد تحدث أثناء الفعل يقدر الإنسان على احتوائها وإعادة أخذها في الاعتبار. إذا قال الإنسان: «أنا مؤمن إن شاء الله»، ولم يحدث الإيمان في المستقبل يحنث الإنسان بوعده، إذا ما حكم الإنسان على الماضي في فعل الشعور فإنه يقوم دائما بقراءة جديدة للماضي طبقا لتجارب الحاضر، وإذا ما حكم على الحاضر فإنه يكون بناء على معرفة الذات وتحليل النفس، وإذا ما حكم على المستقبل فإنه يكون تعبيرا عن العزيمة وعقد العزم دون الوقوع في التصلب والتخشب وترك الميدان مفتوحا لمزيد من التجارب والخبرة وإعادة النظر والمراجعة من أجل مزيد من الإحكام النظري والدقة العملية في السلوك، صياغة وتحقيقا، إنما يقال ذلك عادة تعبيرا عن إيمان شعبي موروث بالأعراف، وأحيانا يعبر عن العجز عن السيطرة على الجهد لنقص في حسابات المستقبل وضعف في رؤيته، ويتضح ذلك بصورة خاصة في أفعال الشعور في الطبيعة كالتوليد أو أفعال الشعور الاجتماعي كالآجال والأرزاق والأسعار وعدم القدرة على السيطرة عليها في المستقبل.
37
أما المشيئة في أصل الوحي فإنها لا تعني الاستثناء في الإيمان والشك فيه، بل تعني مجرد جعل الفعل الإلهي محتملا ومتوقفا على وضع إنساني نظري أو عملي، فردي أو اجتماعي مستحيل، والمتوقف على المستحيل مستحيل مثله.
38 (2) أفعال الوعي الاجتماعي
تشير أفعال الوعي الاجتماعي إلى ما أورده القدماء في نهاية أصل العدل في موضوعات ثلاث: الآجال والأرزاق والأسعار، سواء في كتب التوحيد الأولى أو في كتب العقائد المتأخرة.
39
صفحة غير معروفة