من العقيدة إلى الثورة (٣): العدل

حسن حنفي ت. 1443 هجري
137

من العقيدة إلى الثورة (٣): العدل

تصانيف

16

كما أن الدعاء بهما عجز وتخل عن تحقيقات الغايات بالفعل. الدعاء سلوك شعبي عام وليس من سلوك العقلاء، من صفات العاجزين وليس من شيمة المناضلين، وما الضامن أن يكون الدعاء أو الابتهال ليس موجها إلى المؤله المشخص بل إلى الإنسان ذاته الذي يشخص انفعالاته، إلى شخص حقيقي ذي سلطة أو من يعطيه الإنسان نفسه سلطة بتوهمه أنه من الأنبياء والأولياء والصالحين؟ وإذا كان التوفيق والخذلان والعون والتيسير نتيجة للابتهال والدعاء، أي نتيجة لفعل الإنسان في السؤال والطلب، سواء أعطى إليه أم لم يعط، فقد تتدخل الإرادة الخارجية حتى بلا سؤال أو طلب تدخلا مجانيا خالصا بالإضلال أو الطبع أو الختم في حالة منع اللطف! والحقيقة أن هذا إسقاط من شعور سوداوي على المؤله المشخص، ولماذا يبدأ المؤله المشخص بلا سبب أو باعث منه أو سؤال أو طلب من الإنسان بالإضلال والختم والطبع؟ أليس الأكثر اتفاقا مع طبيعته الكاملة إعطاء اللطف بلا سؤال؟ وكيف يصدر الإضلال والختم والطبع عن الكمال المطلق؟ وكيف يصدر بلا داع إنساني أو استحقاق؟ وإذا حدث فكيف يمكن تبرير استحقاق الإنسان للمدح والذم إذا ختم وطبع على قلبه؟ وكيف يمكن فهم التكليف إذا بدأ بالختم والطبع والإضلال الذي ليس للإنسان حيلة فيه؟

وقد تنقسم الهداية إلى عامة وخاصة مثل التوفيق واللطف؛ الأولى هداية نظرية، مجرد بيان الحق ونصب الأدلة عليه، والثانية هداية عملية تقوم بفعل الهداية، الأولى يقدر عليه الله كما تقدر عليه الرسل، في حين أن الثانية لا يقدر عليه إلا الله. الأولى عامة للناس جميعا والثانية خاصة للمهتدين.

17

وهنا تبرز نفس الإشكالات السابقة في التوفيق والسداد واللطف، فمع أن الهداية النظرية أقل خطورة على حرية الأفعال من الهداية العملية، إلا أن كلتا الهدايتين يضعان سؤالا: ما مقياس الاختيار بين العام والخاص؟ وإذا كان الفعل الإنساني هو المقياس تكون له الأولوية على الفعل الإلهي وتثبت حرية الأفعال، وكيف يمكن التفريق بين هداية الله وهداية الرسول؟ أليس ذاك وضعا لله والرسول على المستوى نفسه من الفعل؟ وإذا ما حدث توفيق أو هدى، ما المانع أن ينسبه الإنسان إلى الأشخاص الموجودين بالفعل وليس إلى المؤله المشخص؟ لا يستطيع الأشخاص إلا التوجيه أو الإرشاد، حتى الأنبياء تعلم وتعطي الفكر ولا تفعل أكثر من ذلك، ولما كان من الصعب على الإنسان التمييز بين المشخص والتشخيص، حدثت الوساطة وطلب الهدى والتوفيق من الأشخاص، وهروبا من الإرادة المشخصة وتدخلها إثباتا للحرية أو اقترابا منها تصبح الأفعال إما من الكون أو من الطبيعة أو من الخلقة، ولما كان الكون إثباتا للشر الكوني خارج الفعل الإنساني لم تبق إلا الطبيعة أو الخلقة، والطبع هو في الحقيقة فعل الطبيعة وليس فعل إرادة خارجية. قد يكون الإنسان بطبعه يقظا أو خاملا، متوقدا أو باردا. قد يزدهر هذا الطبع أو يتقلص بالتربية داخل الجماعة نسبيا، قد يصبح المتألق أقل إشراقا إذا لم تحدث التربية الاجتماعية، وقد يصبح الخامل أكثر نشاطا بالتربية الاجتماعية، ولكن التربية الاجتماعية لا تخلق شيئا من عدم ولا تعدم شيئا بعد وجود.

18

إن الهداية والضلال تجربتان نفسيتان بناء على موقف اجتماعي؛ الهداية هي القدرة على النظر السليم والحكم الصائب والتخطيط الدقيق قبل تحقيق الفعل، وهي قوة مفاجئة أو طاقة غير متوقعة ساعة تحقيق الفعل يشعر بها المناضل، يشعر بأن قوته زادت ساعة النضال إلى مائتين؛ إذ يأتي الإنسان في لحظات التوتر الانفعالي الشديد بأعظم مما يأتي به في اللحظات العادية، تظهر هذه القدرة غير المتوقعة كغيرها من العوامل ساعة الفعل، في التو واللحظة. الإنسان حرية، بالرغم من تدبيره المسبق وتخطيطه لما سيحدث ساعة الفعل، إلا أن عوامل جديدة تدخل في ميدان الفعل أو تظهر في الفاعل تجعل تخطيطه الأول مجرد تقدير مسبق لا يطابق الواقع تماما، وهذا هو الفرق بين العمل النظري المسبق والعلم الحيوي الحركي.

وإذا كان تجوز من الله الهداية فكيف يجوز منه الإضلال؟ وإذا كان الإضلال بالشيطان فهل يوضع الله على المستوى نفسه مع الشيطان في الإضلال كما وضع من قبل على المستوى نفسه مع الرسول في الهداية؟ وكيف يخلق الله الضلال في القلوب ويقضي على العقل والقدرة على التمييز وعلى إمكانية الوعي منذ البداية؟ وإذا كان الضلال جزاء واستحقاقا، فإن الأولوية تكون لفعل الفشل الإنساني وليس لفعل الإضلال من الله. وإن كان الإضلال مجرد ضيق النفس وحرج الصدر وانتهاء السبل بالإنسان، فإنه يكون مجرد حالة نفسية من الفشل والضياع، وعدم القدرة على السيطرة على ميدان الفعل، وقد يصل الأمر إلى حد الهزيمة والنكوص والتراجع، ولكنها حالة مؤقتة، إذ سرعان ما يستعيد الإنسان قواه، ويكسب من تجاربه، ويعيد تخطيطه ويراجع حساباته حتى يعاود الكرة؛ فالفشل أحد تجارب النجاح، والنكوص أحد مراحل التقدم.

19

وقد توضع المسألة كلها على مستوى اللغة وتحليل الألفاظ دفاعا عن الحرية وإثباتا لأفعال الوعي الفردي؛ فالهداية والضلال مجرد أسماء أو أحكام أو أخبار وإعلام خارج القدرة والفعل، هي مجرد إرشاد نظري وليس تدخلا عمليا في أفعال الإنسان، والإرشاد النظري موجود في الوحي سلفا بفهمه وتأويله والكشف عن مضمونه في المصالح العامة، وليس فعلا جديدا من الله. وقد يكون مجرد تفويض من الله للإنسان أن يفعل مكانه وأن يحقق أفعاله باسمه طبقا لخلافة الإنسان لله على الأرض.

صفحة غير معروفة