وآخرون إلى «أنفرس»
Anvers ، وكثير إلى المدينة الشهيدة المعذبة مدينة «لوفان»
Louvin .
وكنا بين الذين ذهبوا إلى «بروج»، فوصلنا إلى هذه المدينة في الساعة الثامنة من صباح يوم صحو قد صفت فيه السماء، وانتشرت فيه الشمس الفاترة على هذه المدينة المشرفة على الموت، والتي أزهرت في القرون الوسطى إزهارا لم تعرفه مدينة بلجيكية أخرى، والتي لا تكاد تقع فيها العين على شيء حديث، وإنما كل شيء فيها قديم. كل شيء فيها يرجع عهده إلى القرن العاشر والحادي عشر، وأحدث ما فيها يرجع عهده إلى القرن السادس عشر. مدينة هادئة مطمئنة لا تكاد تحس حركة ولا اضطرابا إلا ما يحدثه الترام على هذه الأرض التي لم يصطنع فيها «الأسفلت ولا المكدام»، وإنما حجرت على طريقة القرون الوسطى. فالمشي فيها شاق متعب مهلك للأحذية، وللترام والعربات فيها ضجيج شديد. مدينة هادئة مطمئنة فقيرة جدا ولكنها غنية جدا؛ فقيرة لأن الحياة الاقتصادية الحديثة صرفت عنها الحركة التجارية والصناعية، وغنية بما فيها من آثار الفن، وبما فيها من مصادر التاريخ. فقيرة غنية، فأهلها يعيشون من الأجانب كما حدثنا الأستاذ الذي كان يرشدنا إلى الآثار في هذه المدينة. مدينة هادئة مطمئنة لا تكاد تشعر بأنها تعيش في القرن العشرين؛ لأنك لا تنظر فيها إلا إلى شيء قديم. فهي مدينة خليقة حقا بأن يعيش فيها من يكلف بالتاريخ، ومن يكلف بالفن على اختلاف ضروبه بنوع خاص. كل شيء في هذه المدينة يحببها إلى المؤرخ، ويحببها إلى الفني، ويحببها إلى الشاعر؛ لأنها كلها آثار، ولأنها كلها فن، ولأنها كلها شعر، وهي إلى هذا كله من الهدوء والطمأنينة والدعة بحيث يستطيع المؤرخ والفني والشاعر أن يستمتع فيها بتاريخه أو فنه أو شعره دون أن تصرفه عما يحب جلبة الحياة أو ضوضاء الأحياء.
تلقانا في هذه المدينة مدير المحفوظات وعالم آخر من علماء الآثار، وكنا نحو الخمسين، فقضينا اليوم كله على أقدامنا واقفين أمام مشهد من المشاهد، أو منطلقين من هذا المشهد إلى مشهد آخر. نخرج من كنيسة إلى كنيسة، ومن دار إلى دار، ومن متحف إلى متحف، ونحن عجلون؛ لأننا لن نجد من الوقت ما يمكننا من أن نشهد كل شيء، أو أن نحقق النظر في شيء، وإنما نمر سراعا أمام الأشياء كأننا في دار الصور المتحركة، إلا أننا نحن الذين يتحركون بينما الصور هادئة مستقرة في أماكنها. قضينا اليوم كله على الأقدام إلا ثلاث ساعات قضينا إحداها في الفندق للغداء، وأؤكد لك أن أصحاب هذا الفندق عرفوا أننا أجانب وعرفوا كيف يستفيدون من هؤلاء الأجانب، وأؤكد لك أنهم حمدوا للذين نظموا المؤتمر هذه الفكرة التي حملتهم على أن يرسلوا بعض المؤتمرين إلى مدينتهم.
يظهر أنه لم يكن هناك ماء للشرب، فكنت مضطرا إلى أن تشرب النبيذ أو الجعة أو الماء المعدني، وكل هذا يباع ويشرى، وأؤكد لك أن ثمنه ليس بالبخس ولا بالقليل؛ فزجاجة الماء المعدني لم تكلفنا أقل من ثلاثة فرنكات، ولم نخرج من الفندق حتى أنفقنا أنا وزوجي خمسة وأربعين فرنكا ، ولم يكن الطعام رديئا ولكنه لم يكن من الجودة بحيث يستأهل هذا الثمن الباهظ. قضينا ساعة في الفندق، وقضينا ساعتين أخريين أحسبهما من أسعد ساعات الحياة، قضيناهما في زوارق صغيرة طافت بنا حول المدينة. ذلك أني أنسيت أن أنبئك بأن «بروج» تسمى «فينيس» الشمال؛ لأن الماء يتخللها في جميع أنحائها، ولأنك تصطنع فيها الزوارق كما تصطنع العربات في مدينة أخرى، ولست أدري ماذا تنتج المقارنة بين مدينة «فينيس» ومدينة «بروج»، فكلتا المدينتين غنية بآثارها، وكلتا المدينتين غنية بجمال منظرها وحسن موقعها الطبيعي، ولكني أحسب أن الذي يبحث عن الهدوء والدعة، ويريد أن يستمتع بالجمال والفن في غير اضطراب، إنما يجد ذلك في هذه المدينة الشمالية الميتة أو التي توشك أن تموت. في هذه المدينة التي لا تمنحها الشمس حظها من الضوء إلا بمقدار، والتي يكاد الضباب يجللها دائما فيمنحها شيئا من الروعة والجلال ما أحسب أنك تجدهما في «فينيس»، وإن وجدت مكانهما هذا الجمال المبتهج المشرق الذي تمتاز به مدن الجنوب.
لقد أريد أن أحدثك عما في هذه المدينة من الآثار ومن آيات الفن، ولكني عاجز كل العجز عن هذا، وأحسبك لا تجهل مصدر هذا العجز، وبم أحدثك؟ لقد زرنا آثارا كبيرة، وسمعنا دروسا قيمة، ولو أني ذهبت أحدثك بما سمعت أو بما وصف إلي في أثر من الآثار أو صورة من الصور، لاحتاج ذلك إلى مقال طويل، وأنا بعد أريد أن أجتزئ وأن أفرغ من نبأ المؤتمر.
في هذه المدينة أجمل ما في بلجيكا من نماذج العمارة في القرون الوسطى، وفيها أجمل ما في بلجيكا من نماذج التصوير في القرن الخامس عشر والسادس عشر والسابع عشر، وفيها إلى هذا آثار مختلفة تمكن المؤرخ من أن يتصور كيف كان يعيش أهل بلجيكا في القرون الوسطى. زرنا قصرا قديما يسمى قصر «جريتوس»، فإذا القصر نفسه أثر من أبدع آثار القرون الوسطى، ولكن ما في القصر أبدع وأجمل، فقد اجتهدت المدينة في أن تحول قسما منه إلى متحف نظمت فيه الأدوات المنزلية كما كانت منظمة في القرون الوسطى. فإذا زرت هذا المتحف عرفت كيف كان أهل البيت يجتمعون إلى طعامهم، وكيف كانوا يعدون هذا الطعام، وكيف كانوا يجتمعون إلى سمرهم، وماذا كانوا يتخذون في حياتهم من أداة ومتاع. وأجمل ما في هذا القصر من المعروضات «الدنتلا»، فقد عرضت منها ضروب غيري أقدر على أن يصفها، ولكني أعلم أنها بهرت المؤتمرين جميعا، ولم يكن إعجاب السيدات بها أشد من إعجاب الرجال.
ذكرت الزوارق والطواف حول المدينة، ولكني لم أذكر - ويظهر أني لن أستطيع أن أذكر - أثر هذا الطواف في نفسي وفي نفس غيري من المؤتمرين. يكفي أن تتخيل هذه الأقنية الضيقة تخترق المدينة في جميع أرجائها، وقد قامت على جنباتها هذه الأبنية الجميلة الجليلة، واصطفت على شواطئها الخضراء أشجار طوال تكاد أغصانها تقبل الماء من مكان إلى مكان، وانبعث على هذه الشواطئ وخلال هذه الأشجار أطفال كثيرون يلعبون ويمرحون ويبسمون للحياة، وقد عقدت على هذه الأقنية من مكان إلى مكان جسور بديعة قديمة لم يغير منها شيء، وما أنس لا أنس صوت الملاح يصف لنا ما كنا نمر به من الأبنية والعمارات، ثم يقطع وصفه من حين إلى حين بهذه الكلمة: «رءوسكم أيها السادة»؛ ذلك لأنا كنا نقارب جسرا من الجسور، فكان يجب أن نحني رءوسنا حتى لا تصطدم بالعقد.
أشد شيء أثر في نفسي هو إعجاب أهل «بروج» بمدينتهم ومفاخرتهم بما فيها من جمال، وحرصهم على أن يظهروا دقائق هذا الجمال للأجنبي حتى لا يفوته منه شيء، وابتهاجهم حين يرون إعجاب الأجنبي، وحين يسمعون ثناءه وتقريظه، وهم في ذلك كله سواء. ليس هناك فرق بين الأستاذين اللذين كانا يصحباننا وبين الملاحين الذين كانوا يطوفون بنا حول المدينة. بل ماذا أقول؟ لقد كنا في أحد المتاحف، وكان الأستاذ يصف لنا بعض الآثار، ولست أخفي عليك دهشي وإعجابي حين رأيت الأستاذ يخطئ في تاريخ من التواريخ أو في شيء من الأشياء فينبهه إلى خطئه حارس من حرس المتحف، ويقبل الأستاذ منه ذلك راضيا شاكرا . ولقد كنت أذكر أثناء هذا متحفنا المصري وجهل المصريين بما في ذلك المتحف، ولقد كنت أقارن مع شيء من الاستحياء كثير بين حرس المتاحف البلجيكية وزملائي من الأساتذة المصريين، فلم تكن المقارنة مرضية، ويظهر أنها لن تكون مرضية قبل زمن طويل، قبل أن يمن الله على مصر برجال في وزارة المعارف يفهمون العلم والتعليم، ويقدرونهما ويقدرون الحاجة إليهما، ويشعرون بأن مناصبهم ليست مقصورة على تدبير الأموال وتدبير الألعاب الرياضية.
صفحة غير معروفة