قلت لك إن سبيل المؤرخ تخالف سبيل الفيلسوف، وإن الأول يستطيع، بل يجب عليه أحيانا، أن يقر ما ينكر الفيلسوف، وأن ينكر ما يقر الفيلسوف، ولقد انتقلت من هذه اللجنة إلى لجنة أخرى هي لجنة تاريخ الديانات، وكنت غير مقتنع برأي الأستاذ «دوبريل»، فسمعت في هذه اللجنة الثانية أحد أساتذتي وهو الأستاذ «جينيبير» يتكلم، ورأيت الناس من حوله في هرج ومرج، ووددت حين سمعت ما كان يقول لو حضر الأستاذ «دوبريل»؛ ذلك لأن الأستاذ «جينيبير» كان يعلن مبتسما ساخرا أن أعداء التاريخ ثلاثة: عالم الدين، ورجل القانون، والفيلسوف. ضحك ناس وسخط ناس واحتج آخرون، أما أنا فضحكت ولم أسخط ولم أحتج، وإنما هنأت الأستاذ، وهنا أعتذر إلى علماء الدين وإلى رجال القانون، وأسأل صديقي منصور عن رأيه في هذا: أحق أن الفيلسوف عدو للتاريخ؟
باريس في 20 أبريل سنة 1923
5
فكرت في مصر، وفي نص الدستور على السودان، وفي وزارة الشعب، وفي الوزارة القائمة يوم الثلاثاء 10 أبريل، حين كنت أسمع بعد الظهر في جلسة عامة للمؤتمر خطبة قيمة دقيقة ممتعة كان يلقيها الأستاذ الفرنسي «بريمون». كانت الخطبة قيمة ممتعة؛ لأنها كانت تفسر لنا لغزا من ألغاز التاريخ - الفرنسي الإنجليزي - وتوضح لنا ألقابا وعنوانات نجدها في نصوص السياسة الخارجية الفرنسية والإنجليزية قبل الثورة الفرنسية، وكانت دقيقة لذيذة؛ لأنها كانت تلقى بمحضر من قوم مختلفين يمثلون أمما مختلفة، وبمحضر كثير جدا من الإنجليز وكثير جدا من الفرنسيين، وكان الذي يلقيها فرنسيا، وكان رئيس المؤتمر حينئذ إنجليزيا، والناس يذكرون ما بين فرنسا وإنجلترا من خلاف ومشادة ومنافسة في الشرق والغرب؛ فلم يكن بد للأستاذ الفرنسي من أن يصطنع الدقة والتلطف وحسن المدخل حتى لا يؤذي أولئك ولا يهيج هؤلاء. ولا تقل كان المؤتمر علميا والعلماء فوق السياسة، فسأحدثك في غير هذا المقال بما يثبت لك أن العلماء ليسوا فوق السياسة، وأنهم كغيرهم من الناس يخضعون للعاطفة الوطينة ويندفعون معها، والفرق بينهم وبين العامة أنهم يجتهدون في أن يزنوا هذا الاندفاع، وألا يضحوا بالعلم في سبيل السياسة، وقلما يوفقون، ولكني أثنيت على الخطبة، وأطلت الثناء، ولم أحدثك بموضوعها.
كان موضوع هذه الخطبة لقبا من ألقاب ملك إنجلترا؛ فقد كان ملوك إنجلترا يلقبون أنفسهم بهذا اللقب؛ وهو «ملك فرنسا»، وكانوا يصطنعون هذا اللقب، ويحرصون عليه الحرص كله في علاقاتهم السياسية بملوك فرنسا. ولم يكن ملوك فرنسا يستطيعون أن يصطنعوا هذا اللقب. فكانوا يلقبون أنفسهم بأصحاب الجلالة المسيحية جدا. وحاول لويس الرابع عشر أن يحمل ملوك إنجلترا على أن ينزلوا عن هذا اللقب فلم يفلح، ولم يفلح بعده لويس الخامس عشر، وغريبة جدا الحيل التي كان يتخذها المندوبون السياسيون للويس الرابع عشر وللويس الخامس عشر، ليمحوا هذا اللقب من ألقاب الإنجليز، أو ليخفوه، دون أن يوفقوا، حتى لقد حاول بعضهم أن يمحو هذا اللقب من النص الفرنسي لمعاهدة بين البلدين على أن يبقى في النص اللاتيني؛ لأن الجمهور يقرأ النصوص الفرنسية ولا يقرأ النصوص اللاتينية، فلم يفلح، وحتى لقد كان أحد ملوك إنجلترا منفيا مخلوعا، وكان يأوي إلى فرنسا، وكان ضيفا على لويس الرابع عشر، وكان لويس الرابع عشر يحميه ويدفع عنه، وكان مع ذلك يلقب نفسه ملك فرنسا، ولم يوفق الفرنسيون إلى محو هذا اللقب من ألقاب ملوك الإنجليز إلا أيام الثورة، أو بعبارة أصح: أيام القنصلية. فقد اشتد الخلاف بين مفوضي الجمهورية الفرنسية ومفوضي المملكة الإنجليزية حول هذا اللقب، وكانت حجة الفرنسيين أن الثورة قد ألغت الملكية من فرنسا، فهي لا تعترف بلقب يخيل أن لفرنسا ملكا، كائنا من كان، سواء أكان هذه الملك فرنسيا أم غير فرنسي، وسواء أكان ملكا حقا أم لفظا، وأن الإنجليز الذين يريدون أن يعترفوا بالجمهورية يجب عليهم - ليكونوا منطقيين مع أنفسهم - أن يمحوا هذا اللقب من ثبت الألقاب الملكية. وأبى الإنجليز ذلك، فانقطعت المفاوضات، واستؤنف الجهاد بين البلدين. فلما كانت القنصلية، وظهر الميل إلى الصلح بين الإنجليز والفرنسيين، وأخذ الساسة في البلدين يوطئون لمعاهدة «أميان»
amiens ، أحس الإنجليز أنهم إذا لم ينزلوا عن هذا اللقب فستنقطع المفاوضات، وأحسوا في الوقت نفسه أنهم إن نزلوا عن هذا اللقب بمقتضى مفاوضات بينهم وبين فرنسا، كان هذا النزول انتصارا لفرنسا وخزيا وطنيا للإنجليز. فانتهزوا فرصة ضم إرلندا إلى المملكة الإنجليزية، وصدر آخر ديسمبر سنة 1800 مرسوم ملكي يعلن أن ملك إنجلترا سيلقب من أول يناير سنة 1801 ملك «بريطانيا العظمى وإرلندا»، ولم يذكر اللقب الذي كان عليه الخلاف؛ وهو ملك فرنسا. وبهذا محي هذا اللقب ولم يحتج الفرنسيون إلى أن يفاوضوا في محوه، ولم يحتج الإنجليز إلى أن ينخذلوا في المفاوضة. ولكن هذا لم يمنع المؤرخين الإنجليز من أن يعترفوا في أواسط القرن الماضي بأن هذا النزول كان خزيا وطنيا وامتهانا لكرامة التاج.
ذكرت مصر، وذكرت نصوص الدستور على السودان، وذكرت تلقيب ملك مصر بأنه ملك السودان، وذكرت هذه السهولة التي أظهرتها وزارة مصرية في النزول عن هذا اللقب، ولو إلى أجل. ذكرت ذلك فاستخزيت لوزارتنا، ومن ذا الذي يذكر هذا ولا يستخزي؟! جاهدت إنجلترا قرونا لتحتفظ بلقب لا خير فيه، فلم يكن ملك إنجلترا ملكا لفرنسا أيام لويس الرابع عشر، بل كان ملك إنجلترا يخشى ملك فرنسا، ومع هذا كان يلقب نفسه ملك فرنسا. لم يكن هذا اللقب مفيدا، بل كان مضحكا، ومع ذلك لم تنزل عنه إنجلترا إلا حين اضطرت اضطرارا شديدا إلى النزول عنه. أما نحن - أستغفر الله! - أما وزارتنا فقد نزلت عن هذا اللقب: «ملك السودان»، وهي تعلم أنه ليس لقبا لفظيا، وهي تعلم أنه لقب يمثل الحق والعدل والقانون، وأن الاحتفاظ به احتفاظ بحق مصر، والتفريط فيه تفريط في حق مصر. نزلت عنه ولما تضح في الاحتفاظ به بالقليل ولا بالكثير. نزلت عنه لأن ممثل إنجلترا قطب جبينه ولوى وجهه. ذكرت هذا كله وذكرت جهاد الإنجليز في الاحتفاظ بلقب سخيف، ثم إصرارهم على ألا تحتفظ مصر بلقب هو كما قلت مثال الحق والعدل والقانون. استخزيت لوزارتنا وسألت الله أن يمنح مصر ساسة يستطيعون أن يقاوموا ساسة الإنجليز ! ثم سمعنا خطبتين؛ إحداهما عن نقوش يونانية استكشفت في آسيا الصغرى ألقاها عالم إنجليزي، والأخرى عن أثر الخرافات والنبوات في سياسة الجمهورية الرومانية ألقاها عالم بولوني.
ثم انصرفنا إلى القصر، وكانت الساعة الخامسة من هذا اليوم قد ضربت موعدا لمثول أعضاء المؤتمر بين يدي الملك والملكة، فرأيت في هذا القصر أشياء كثيرة تركت في نفسي آثارا قوية. رأيت قبل كل شيء مظهرا من مظاهر حب العلم والتهالك عليه والافتنان في نصره، ومظهرا من مظاهر الوطنية الصادقة القوية، ومظهرا من مظاهر إجلال أوروبا لعلمائها وإكبارها لمكانتهم ومفاخرتها بهم، وكان الذي يمثل هذه المظاهر رجلا شيخا فانيا قد تجاوز السابعة والثمانين، وانحنى على العصا فما يستقيم له ظل، وانحلت قواه فما يمشي إلا متثاقلا، وما يكاد يستقل بنفسه، فهو محتاج أبدا إلى من يعتمد عليه، وكان مبتسما، وكان فرحا، وكان يتلطف في الحديث إلى كل من ذهب يحييه، وقد ذهبنا كلنا نحييه، وكان وحيدا؛ أي لم يكن يمثل بلده سواه، وكان جالسا على كرسي في ناحية من نواحي البهو الذي كنا ننتظر فيه وقوفا أن يؤذن لنا بتحية الملك. هذا الشيخ الذي كانت تحوطه بلجيكا، والذي كان يرعاه المؤتمر كله، هو الأستاذ «شميت»
Schmidt ، أقبل من كوبنهاجن يمثل الدنمارك في المؤتمر، وألقى في لجنة الشرق خطبة عن مقدار علم المصريين القدماء بتاريخ مصر القديم، فكان لخطبته فوز، وتحدثت بها صحف بلجيكا. ذهبت إلى هذا الرجل فحييته وشكرت له عنايته بتاريخ مصر. فما أشد ما أثرت فيه تحيتي وشكري! وما أحسن ما أظهر ميله إلى مصر، وإعجابه بمصر، وأمله في مستقبل مصر!
أذن لنا في الدخول، ورتبنا حسب أحرف الهجاء. فدخل أعضاء المؤتمر البلجيكيون، ثم ممثل البرازيل، ثم الشيخ الفاني ممثل الدنمارك، وكنا اثنين يمثلان مصر، وكانت زوجتي تصحبني، وكنا وراء هذا الشيخ، فسمعنا تحية الملك له، وسمعناه يتحدث بكلام كثير إلى الملك لم نفهم منه شيئا، ولم يفهم الملك منه شيئا؛ لأن الرجل متقدم في السن فهو لا يكاد يبين إذا تكلم الفرنسية . ثم أراد الرجل أن ينصرف فزلت قدمه وكاد يسقط، ثم صافح الملكة وأراد أن ينصرف وكاد يسقط، ولولا أن كبير الأمناء كان يسنده لهوى إلى الأرض.
صفحة غير معروفة