قرأت أن هناك عالما فرنسيا من علماء الفلك المعروفين قد كتب في هذه الأيام الأخيرة كتابا سماه «مملكة السموات»، وفي هذا الكتاب الذي يقال إنه ممتع جدا فصل يبحث فيه المؤلف عن حركة الأرض، ويثبت فيه أن من المستحيل أن تثبت بطريقة علمية قاطعة أن الأرض تدور ... إذن فنحن لا ندري من شأن الأرض شيئا، أدائرة هي أم ساكنة، وكل هذه الأدلة الكثيرة المختلفة التي جمعها العلماء منذ حوكم «جاليله»
galilee
إلى الآن ليثبتوا بها أن الأرض تدور، كل هذه الأدلة فاسدة أو غير منتجة، بل يذهب الأستاذ «نورمان»
nordmann
صاحب الكتاب المذكور، إلى أبعد من هذا جدا، فيزعم أن دوران الأرض شيء ليس إلى إثباته أو نفيه من سبيل، وإذن فقد قضي علينا - إن صحت آراء الأستاذ «نورمان» - أن نجهل أبدا شأن الأرض فلا نعلم أساكنة هي أم دائرة!
سنقول: وأي شيء يصيبنا إن علمنا بأن الأرض دائرة أو ساكنة أو جهلنا دورانها وسكونها؟ ربما لم يصبنا شيء، فسنأكل ونشرب وننام ونستمتع باللذات ونتجرع مرارة الآلام سواء أكانت الأرض ساكنة أم دائرة، ولكن ماذا تقول في أولئك العلماء الذين يبحثون عن العلم للعلم، لا تعنيهم نتائجه العملية، والذين يموت أحدهم غما إذا ظهر خطؤه في رأي من الآراء أو نظرية من النظريات؟
كنت أقرأ في أعداد «السياسة» الأخيرة محاضرة صاحب الفضيلة أستاذنا الجليل الشيخ محمد بخيت في الرد على «نورمان»، فرأيته يبذل كل ما يستطيع من قوة وجهد وينفق علمه الواسع ليثبت أن الإسلام دين العلم، بل ليثبت شيئا آخر غير هذا، وهو أن القرآن الكريم لا يناقض بلفظه ولا بمعناه أصلا من أصول العلم الحديث، بل هو فوق هذا يشتمل على أصول العلم الحديث. ورأيت الأستاذ يستنبط من القرآن الكريم كروية الأرض وحركتها حول الشمس وحول نفسها واختلاف الفصول واختلاف الليل والنهار، فأعجبت بهذا الجهد العنيف الذي لا مصدر له إلا البر والتقوى، ومن قبل ذلك قرأت أشياء كثيرة للأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده - رحمه الله - حاول فيها مثل ما حاول الأستاذ الشيخ محمد بخيت، والناس في مصر وفي الشرق يعجبون بمثل هذه المحاولة؛ لأنها تظهرهم في منزلة من الحضارة ليست أقل ولا أدنى من منزلة الأوروبيين الذين اخترعوا العلم الحديث، وإن كنت أنا لا أحب هذه المحاولة ولا أتكلفها، وربما كرهتها ونفرت منها؛ لأنها تفسد النصوص، وتحمل على الغلو في التأويل. كنت إذن أقرأ محاضرة الأستاذ الشيخ بخيت وأعجب بها، فلما قرأت ما قرأت اليوم تحدثت إلى نفسي بما يأتي:
لو صح ما ذهب إليه الأستاذ «نورمان» وأقره العلماء، وأصبح الإجماع منعقدا على أن الأرض لا تدور كما كان منعقدا على ذلك منذ قرون وحين أنزل القرآن الكريم، فأين يذهب هذا الجهد العنيف الذي بذله الأستاذ الشيخ بخيت والأستاذ الشيخ محمد عبده ليثبتا أن القرآن يدل على أن الأرض تدور؟ وهل يبذل الأستاذ الشيخ محمد بخيت وخلفاء الأستاذ الشيخ محمد عبده جهدا عنيفا ليثبتوا أن القرآن يدل على أن الأرض لا تدور؟ وإذن فكيف نستطيع أن نفهم دلالة القرآن على أن الأرض تدور وعلى أن الأرض لا تدور؟
ليس هناك من شك في أن المسلمين في العصور الأولى كانوا يعتقدون أن الأرض لا تدور، وأن القرآن يدل على أنها لا تدور؛ لأن الإجماع كان منعقدا يومئذ على أنها لا تدور، ثم جاء علماء أوروبا وشياطينهم فزعموا أن الأرض تدور، وكانت حرب بينهم وبين عامة الناس وزعماء الديانات، ثم انعقد الإجماع على أن الأرض تدور، وجاء قسيس من دعائم «الفاتيكان» الذي حكم على «جاليله» فجمع أدلة لا تحصى على أن الأرض تدور، ثم جاء الأستاذ «نورمان» وشيطانه فزعما لنا أن الأرض قد لا تدور، وربما جاء العلماء وشياطينهم فأقروا صاحبنا وشيطانه على أن الأرض لا تدور، أو على أنه من المستحيل أن نجزم بأنها تدور، أو بأنها لا تدور! وإذن، وإذن فما قيمة الشك وما قيمة اليقين، وما قيمة العلم، وما قيمة النص، وما قيمة التأويل؟ أليس من الخير ألا نغلو في الشك ولا نغلو في اليقين؟ أليس من الخير أن نكتفي بالترجيح؟ ثم أليس من الخير ألا نحمل نصوص القرآن وغير القرآن من الكتب الدينية أوزار الشك وأوزار اليقين، وهذه النتائج الكثيرة المختلفة المضطربة المتناقضة التي تنشأ عن أمزجتنا المختلفة المضطربة المتناقضة، والتي تنشأ عما نأكل وما نشرب وما نرى وما نسمع وما نحس؟ أليس من الخير أن نجعل القرآن الكريم وغيره من الكتب الدينية في حصن مقدس منيع لا تصل إليه أبخرة العدس والفول والزيت والطعمية وغير ذلك مما نأكل لنهضمه مرة ولا نهضمه مرة أخرى، وينشأ عن سهولة الهضم وعسره حسن تفكيرنا أو سوءه، اللهم إني أعتقد أن الأرض قد تدور وقد لا تدور، وأنها قد تكون كرة أو سطحا أو كمثرى، وأن الزمان قد يوجد وقد لا يوجد، وأن المكان قد يوجد وقد لا يوجد، وأن «نيوتن»
newton
صفحة غير معروفة