والكاتب يعرض عليك أطوار هذا الموضوع يسيرة كل اليسر، سهلة كل السهولة، وينقلك من بعضها إلى بعض، دون أن تحس عنفا في هذا الانتقال. ومع ذلك فهو يميز لك هذه الأطوار بعضها من بعض أوضح التمييز وأقواه، يباعد بينها في الزمان أو في المكان، حتى لا تخدعك وحتى لا تختلط عليك. فأنت في أول الأمر أمام شابين يضيقان بالشباب ويتعجلان تقدم السن، لا لشيء في أكبر الظن إلا لأنهما شابان، ولأن طبيعة الشباب لا تحب الراحة والسكون، وإنما هي تطمع أبدا في الحركة وتكلف أبدا بالانتقال من حال إلى حال، وتغلي غليانا متصلا قويا لتبلغ الأرب وتحقق الأمل وتشعر بأنها مسيطرة حقا على الحياة. ثم أنت بعد ذلك أمام رجل قد أتاحت له الظروف ما كان يريد، وحققت له من آماله ما كان يطمح إلى تحقيقه. وإذا هو مطمئن إلى ذلك أو كالمطمئن، ولكن في نفسه حسرات قوية لا يكاد يشعر بها؛ لأنه مشغول عنها بخطوب الحياة وأثقالها وما تفرضه على الأحياء من جهد وتفكير. غير أن الحياة نفسها ترفع الأستار عن هذه الحسرات الخفية، فإذا الرجل الذي كان راضيا مطمئنا قد أصبح ساخطا ثائرا ممعنا في السخط والثورة، مندفعا فيهما إلى أبعد أمد ممكن، مخالفا لقوانين العادة والعرف والنظام. ثم أنت بعد هذا كله أمام هذا الرجل نفسه، وقد تكشفت له الحياة عن حقيقتها، ونظر فإذا هو يرى في غير شك ولا ريب أن محاولة المحال عبث، وأن تكلف ما لا سبيل إليه نوع من الجنون، وأن الشباب موقوت لا بد من أن ينقضي، وأن ما تذهب به الأيام لا سبيل إلى أن يعود، وأنه لا بد مما ليس منه بد، وأن الحياة إذعان ورضى قبل أن تكون طمعا وطموحا وثورة وسخطا واضطرابا. وإذا هو يرضى كما رضي غيره من قبل، وكما سيرضى غيره من بعد، وإذا هو يعود راضيا أو كارها إلى ما لا بد منه من طاعة القوانين والنظم التي فرضتها الطبيعة أو فرضتها الحياة على الأحياء فرضا، وإذا هو لا يستبقي من أمله ويأسه ومن رضاه وسخطه ومن استقراره وثورته، إلا ذكريات قد تكون حزينة لاذعة وقد تكون جميلة حلوة، ولكنها على كل حال ذكريات لا أكثر، ذكريات لا قوام لها، ذكريات هو مضطر إلى أن يقنع بها ويتعزى حتى يأتيه اليوم الذي لا بد من أن يظل الناس جميعا.
أما إذا رفع الستار فأنت في قهوة من هذه القهوات الباريسية القريبة من الأوبرا، والتي يختلف إليها أواسط الناس ويكثرون فيها آخر النهار، وحين ينتهي التمثيل منتصف الليل. وهي من هذه القهوات التي تؤثر الجد ولا تتكلف المجون، ولكنها في الوقت نفسه لا تستطيع أن تبرأ منه؛ لأن في ذلك شيئا من العسر. وأنت ترى في القهوة إذا رفع الستار رجلين: أحدهما تظهر عليه الثروة والجد والاحتشام وامتياز الشكل وحسن التربية، والآخر يظهر عليه الغنى، ولكن يظهر عليه أيضا أنه من أهل الأقاليم الذين إذا زاروا باريس لم يحبوا أن ينفقوا زيارتهم كلها في الجد، وإنما هم يريدون شيئا من المجون يلتمسونه في موضعه وفي غير موضعه، ويطلبونه في وقته وفي غير وقته.
فأما صاحب الجد فهو ينظر في جريدة الطان، وأما الرجل الآخر فهو لا ينظر في شيء ولكنه ضيق بما هو فيه من الفراغ. وهو يتحدث إلى الخادم ألوانا من الحديث يضحك منها الخادم ويضيق بها، وإنه لفي ذلك وإذا فتاة حديثة السن جميلة رائعة، ولكنها ظاهرة الجد والاحتشام، تقبل فتدخل القهوة في عزم وتصميم وفي اطمئنان إلى النفس وثقة بها. ولا تكاد تدخل حتى يخيل إلى هذا الرجل من أهل الأقاليم أن الظروف قد ساقت إليه ما كان يبتغي من أسباب العبث واللهو، وإذا هو يغرى بالفتاة ويتقرب منها، والفتاة تدفعه عن نفسها في حزم رفيق أول الأمر، فلا يزيده ذلك إلا تعلقا بها وتعرضا لها. فتزجره الفتاة زجرا، فلا يغني الزجر شيئا. ويضطر صاحب الجد إلى أن يرده عن الفتاة في شيء من الحزم والنذير، وإذا هو مضطر إلى أن يترك القهوة ساخطا أشد السخط. ولكن المكان قد خلا لصاحب الجد هذا، فهو يدنو من الفتاة ويجلس معها، يزعم لها أن في ذلك صرفا للناس عن التعرض لها، فما ينبغي لمثلها أن تجلس منفردة في القهوات حين يتقدم الليل. والفتاة تقبل منه معونته ونصحه وتشكرهما له.
وهما يمضيان بعض الشيء في الحديث، وإذا هذا الرجل الذي كان يحمي الفتاة ويرد عنها الطامعين فيها قد أغري بها إغراء، ولكن إغراء الرجل الذي يعرف ما يحسن وما لا يحسن، والذي لا يقول إلا بمقدار. وهو يسأل الفتاة عن نفسها وعن حالها، فنعرف أنها قد أقبلت تنتظر صاحبها الذي يشهد التمثيل في الأوبرا مع بعض أقاربه الذين أقبلوا من الأقاليم. فهي إذن صاحبة عبث وإن ظهر عليها الجد، وهي في الثامنة عشرة من عمرها، فهي غرة ضعيفة الرأي، لا تدري كيف تستقبل ما يعرض لها من الأمر، وهي مطمئنة إلى صاحبها هذا الذي تنتظره لأنها تحبه وتعلم أنه يحبها، وإن كانا يختلفان فيما بينهما أشد الاختلاف؛ فهو من الطبقة الوسطى التي لها حظ من يسار، والتي تحرص على مكانتها الاجتماعية. وهي من الطبقة الدنيا، كانت بائعة في بعض دور التجارة، فلقيت هذا الفتى فأحبها وأحبته، وهما سعيدان بهذا الحب، وإن كانا كثيرا ما يختصمان. وهي مطمئنة إلى هذا الحب، ولكن هذا الرجل يخوفها ويحذرها ويغريها في رشاقة وخفة تفهمهما أحسن الفهم وتأباهما أشد الإباء، ولكن صاحبها لا يحفل بإبائها، وإنما يلفتها إلى شبابها وإلى أنها بحكم هذا الشباب تجهل أمس لأنها لا ماضي لها، وتجهل الغد لأنها مشغولة عنه باليوم، والخير لها في أن تحتاط، وأيسر أنواع الاحتياط أن تأخذ هذه البطاقة فتحفظها عندها، ففيها عنوان قد تحتاج إليه في يوم من الأيام.
وإنه لفي ذلك وإذا فتى يقبل فينصرف الرجل وقد ترك عنوانه للفتاة. وتهم هي باستقبال الشاب ويتحدثان، فنفهم أنه ليس صاحبها الذي كانت تنتظره، ولكنه رفيق ملازم لصاحبها في الدرس وملازم له في اللعب أيضا، وهما يعيشان معا، أو قل هم يعيشون معا، فهم ثلاثة؛ أحدهم هذا الفتى روجيه، والآخر ذلك الفتى جان الذي لم يأت بعد من الأوبرا، والثالث هذه الفتاة روبرت عشيقة جان. والفتاة تسأل روجيه عما يعلم من حب صديقه لها، وهو يعبث منها مؤكدا هذا الحب الذي لا يحتاج إلى تأكيد، وهو ضيق بهذا الحديث الذي لا ينقضي عن حب هذين العاشقين اللذين ما ينفكان في سخط ورضى وفي خصام وصلح، وهو يتحرق شوقا إلى أن يتحدث عن نفسه وعن آماله في الحياة، فهو أديب قد خلق للأدب ولم يخلق لغيره، وخلق لفن معين من الأدب، هو الأدب التمثيلي، وهو قد بدأ قصة لم يكد يعرض بعضها على أمه حتى رقت لما سمعت وبكت وأغرقت في البكاء. فهو كاتب بارع من غير شك، ولن يمضي العام حتى تكون قصته الأولى حديث باريس، ولن تمضي أعوام حتى يكون رئيسا لجماعة الأدباء، ثم أعوام أخرى وإذا هو في المجمع اللغوي، ثم تتصل الحياة الأدبية بما تفرضه على الأدباء من تكاليف المجد وأثقاله.
وصاحبنا يتحدث بهذا حديث المؤمن به المطمئن إليه؛ فقد تقدمت به السن ولم يبق طفلا بعد. أليس قد بلغ الثالثة والعشرين؟ والفتاة ضيقة بحديثه عن نفسه وأدبه، كما كان ضيقا بحديثها عن نفسها وحبها. وهما يختصمان في ذلك، ولكن صديقهما جان يقبل فيعفيهما من هذا الخصام. وهم يأخذون في أحاديثهم يرضون قليلا ويسخطون كثيرا. وقد انصرفت الفتاة عن الصديقين لحظة، فلا يكادان يخلوان حتى نفهم من حديثهما أن جان قد استكشف شيئا خطيرا حقا؛ استكشف أنه لم يبق طفلا بعد، فقد رأى في رأسه شعرة بيضاء، وإن كان في الخامسة والعشرين، فلا بد من أن يستقبل حياة الرجال بما ينبغي لها من الجد، وأول ذلك أن يتهيأ للزواج، وأن يأخذ في العمل. وتقبل الفتاة فتقطع عليهما الحديث، ولكن شيئا يحدث له خطر أي خطر؛ فقد أقبل على القهوة رجل شيخ ومعه فتاة حديثة السن، فاستخذى لمقدمها جان، واضطر إلى لقائهما والتحدث إليهما والجلوس معهما لحظة، وأخذت روبرت وصاحبها يسمعان الحديث، فإذا الفتاة التي أقبلت خطب
1
لهذا الفتى، وإذا هو قد قضى معها المساء في الأوبرا، وإذا هو قد كذب على صاحبته حين زعم لها أنه كان مع بعض أقاربه من أهل الأقاليم.
وإذا نبوءة ذلك الرجل تتحقق في سرعة غريبة، وما يكاد الشيخ ينصرف مع ابنته، وما يكاد جان يقبل على صاحبيه حتى يرى الشر في وجه روبرت. فأما روجيه فيسرع إلى الانصراف فرارا من الخصام، وأما الصديقان فيختصمان. وكم كنت أحب أن أترجم لك هذا الخصام، فهو يمثل سذاجة الشباب واندفاعه السريع إلى اليأس الذي لا حد له، ورجوعه السريع إلى الأمل واندفاعه إلى الغضب ورجوعه إلى الرضى، واضطرابه بين النقائض على كل حال. ولكن الفتاة أثبت رأيا وأمضى عزما من صاحبها، فهي تستيئس وتستمسك باليأس وتقطع ما بينها وبينه من صلة، وتأبى أن تنتظر بذلك مطلع النهار. وتنصرف عن صاحبها الذي يغرق في حزن صادق، ولكنه سريع الزوال.
ثم تمضي على هذا الفصل أعوام طوال تقع في أثنائها الحرب الكبرى، وتضطرب فيها الحياة أشد الاضطراب، ثم تعود إلى الاستقرار. ويرفع الستار لنا عن بيت من بيوت الطبقات الغنية التي تكسب ثروتها الضخمة من الصناعة، وهو بيت جان، وقد تزوج وسلك طريقه في الحياة بعد أن أدى واجبه في الحرب. وقد استقل بإدراة مصانع ضخمة، وقد فقد أباه منذ عام، وقد رزق صبيا يختلف إلى المدرسة، وزوجه سيسيل منصرفة إلى بيتها تدبر شئونه في عناية وجد وترف، وهو منصرف إلى مصانعه يدبر شئونها في حزم ودقة، وينميها إنماء مطردا. ونحن نفهم من اتصال المناظر وما يكون فيها من حديث أن صاحبي البيت ينتظران قوما سيتناولون معهم العشاء، وهما معنيان بهؤلاء الناس أشد العناية؛ فقد يظهر أن جان ينتظر نفعا عظيما لمصانعه من هؤلاء الزائرين. وهو يريد أن يتهيأ للعشاء، ولكن الخادم ينبئه بأن امرأة تريد أن تلقاه، فيأبى، وتلح المرأة، فيلقاها كارها؛ ولا تكاد تتحدث إليه حتى يعلم ونعلم نحن أنها كانت خليلة لأبيه، وهو يستكشف من أمر أبيه شيئا عجبا؛ فهو كان يعرف أباه صاحب جد وحياة خشنة ونفس ضيقة وانصراف شديد عن الضحك فضلا عن اللهو، ولكن هذه المرأة تبين له أن أباه كان يحيا نوعين من الحياة؛ فهو كان صاحب جد وخشونة في أهله، ولكنه كان صاحب فرح ومرح إذا خلا إلى نفسه وإلى صاحبته. وهي تقدم له من كتب أبيه ما يثبت ذلك في غير شك، ثم تقدم له وثيقة يوصي الرجل فيها بشيء من المال يضمن لهذه المرأة حياة مطمئنة، فيعد جان بإنقاذ امرأة أبيه، ولكن ما استكشفه قد أثار في نفسه خواطر متفرقة، واضطره إلى كثير من التفكير. وهذا حموه قد أقبل، فلا يكاد يتحدث إليه ببعض ما علم حتى يسمع منه عجبا أي عجب؛ فهو أيضا صاحب جد وخشونة في بيته، ولكنه صاحب لهو ومرح إذا خلا إلى نفسه وإلى صاحبته حين كانت له صاحبة وقبل أن تتقدم به السن إلى هذا الحد.
صفحة غير معروفة