فإذا كان الفصل الثالث فقد انقضت أشهر ثلاثة على استقرار الطبيب في هذه القرية، ولكن كل شيء في القرية قد تغير، بل كل شيء فيما يجاور القرية من قريب أو بعيد قد تغير. فأما فندق القرية فقد استحال إلى مستشفى وأصبح خدمه ممرضين، وأصبح أهل القرية جميعا وأهل القرى المجاورة جميعا مرضى. منهم من يعالج في بيته، ومنهم من يعالج في الفندق المستشفى. والطبيب لا يريح ولا يستريح، والصيدلي لا يهدأ في نهار ولا يستقر في ليل، والمعلم نشيط في نشر الدعوة للطب. وقد أصبح الطبيب محببا إلى الناس جميعا، لا يختلف في حبه اثنان ولا يشك في كلامه أحد. وهذا الطبيب القديم قد أقبل يتقاضى صاحبه بعض الثمن الذي باع به مكانه في القرية، فما أشد دهشه حين يرى الفندق وصاحبة الفندق وخدم الفندق، وحين يرى الصيدلي؛ كلهم ينكره وكلهم يتبرم به. وهو يحاور الطبيب الجديد ويطول بينهما الحوار، وإذا هو متأثر بهذه النظرية الجديدة التي كان ينكرها، وإذا هو يعرض على صاحبه أن يرد عليه مكانه وأن يذهب هو إلى ليون، والطبيب الجديد لا يقبل منه، ولكنه يظهر القبول أمام الصيدلي وأمام صاحبة الفندق، فتظهر معارضة يا لها من معارضة! ويسمع الطبيب القديم ما يكره، وترفض صاحبة الفندق أن تئويه لولا أن الطبيب الجديد يتوسط له ويعلن إلى صاحبة الفندق أنه مريض، وأن الطب لا يأذن له بالسفر إلا بعد أن يستريح. فإذا خلا الطبيبان مضيا في الحوار، فأما الطبيب القديم فيذكر الشرف، يذكر الحق ويذكر الإخلاص، ويذكر ضمير الطبيب وما ينبغي له من الأمانة والنقاء. وأما الطبيب الجديد فيذكر الطب، وأن سلطانه يجب أن يبسط على الناس جميعا، وأن واجب الطبيب إنما هو أن يخلص لمهنته وأن يخضع الناس لها، وأن كل صحيح متمرد على الطب يجب أن يقاوم حتى يلقي بيده ويذعن للطب إذعانا تاما. وهو يعرض على صاحبه الخرائط التي رسمها فصور فيها القرية وما حولها، وصور فيها انبساط سلطان الطب على هذه القرى قليلا حتى عمها جميعا، وأخضعها لهذه المهنة المقدسة.
وقد بهر الطبيب القديم بما رأى وبما سمع، ولكن شيئا قد استقر في نفسه. ألم يسمع صاحبه يعلن إلى صاحبة الفندق أنه مريض وأنه لا يستطيع أن يعود إلى مدينة ليون دون أن يستريح؟ وهو في حقيقة الأمر يحس شيئا من الألم، وهو يريد أن يعرف فيه رأي صاحبه، وهو يسأله في استحياء وتردد. ولكن الطبيب الجديد يدعوه هادئا باسما إلى أن يتناول معه طعام الغداء، فإذا فرغا من طعامهما فقد يستطيع أن يمتحنه على مهل في عيادته كما يمتحن غيره من الناس. وإذن فقد انتصر الطب على المرضى، وانتصر على الأصحاء، وانتصر على الطب والأطباء أيضا. وأي انتصار أعظم من إقناع هذا الطبيب نفسه بأنه مريض؟!
ولم ألخص لك القصة إلا تلخيصا مشوها حقا، فقد أهملت ما فيها من حوار رائع وملاحظات دقيقة يجدر بالأدباء ويجدر بالأطباء خاصة أن يقرءوها، فإنهم سيجدون فيها متاعا لا يشبهه متاع.
هدوء السر
قد يغضب المجمع اللغوي لهذا العنوان الذي يصور لغة العامة أكثر مما يصور لغة الفصحاء، ولكني مع ذلك أوثره لأني أجد فيه الترجمة الصادقة للعنوان الفرنسي:
La paix chez soi là ، كما أجد فيه تصويرا صحيحا دقيقا للقصة نفسها كما سيراها القارئ. ولست في هذه المرة ملخصا ولا ذاهبا ذلك المذهب الذي ألفه القراء فيما تعودت أن أكتب لهم من هذا الحديث كل أسبوع، وإنما أنا مترجم أضع لفظا عربيا مكان لفظ فرنسي، وقد أختصر بعض الجمل إيثارا للإيجاز وأترك للقارئ أن ينقد ويفسر ويقضي. فلا بأس بأن أريح القارئ من هذا التوسط بينه وبين كتاب الغرب من حين إلى حين، ولا بأس بأن أقف القارئ من وقت إلى وقت أمام هؤلاء الكتاب وجها لوجه.
والمسرح يصور غرفة لأحد الكتاب وقد قام الكاتب أمام مائدة مرتفعة يكتب عليها لأنه من الذين يؤثرون الكتابة وهم قيام. والكاتب حين يرفع الستار يحصي الأسطر التي كتبها ليعرف ما بقي عليه أن يكتبه من الجزء الذي يرسله إلى صحيفته في كل يوم، فهو يكتب في هذه الصحيفة قصة مسلسلة.
المنظر الأول
ترييل وحده قائما أمام مكتبه ومحصيا بطرف قلمه الأسطر التي كتبها بعد جهد شديد 274، 276، 278، 280، 285، لا بد من ثلاثين سطرا منها تقع في عشرين فقرة، ويضاف إليها مقدار ضخم من نقط التعليق، ثم جملة مقطوعة قطعا حسنا يؤثر في القارئ ويختم به الفصل، فإذا لم يرض القارئ مع كل هذا فله أن يذهب لينام. يا لها من مهنة! ثم يغمس قلمه في الدواة ويتهيأ للكتابة ويتنفس ويتمطى ويتثاءب تثاؤبا طويلا، ثم يتحدث إلى نفسه. وهذا يضايقك. تعلم، أيها الشيخ تشجع، خذ حظك من زيت كبد الحوت! ثم يستقر رأيه على الكتابة ويأخذ فيها ممليا على نفسه بصوت مسموع: «ومع أن ساعة سان سفيران القديمة كانت منذ وقت طويل قد أسمعت الدقات الثلاث للساعة الثالثة في صمت الليل» ... ثم يتحدث إلى نفسه: الدقات الثلاث للساعة الثالثة. يا لها من مهنة! ثم يسخر ويرفع كتفيه ويمضي في الكتابة والإملاء: «... كان الشيخ ماضيا على بطء في الذهاب والمجيء، وقد التف من رأسه إلى قدمه في معطف قاتم اللون، وكانت تنحدر من عينيه دموع تتدحرج على لحيته البيضاء كأنها البرد.» ثم يقطع الإملاء. ما أشد شبه هذا بكلام الحمير! ثم يمضي في الإملاء: «وكان يغمغم بهذه الكلمات: يا للخزي! لقد أحسسته منذ عشرين سنة وما زال مع ذلك مضطرما لاذعا!» ثم يقطع الإملاء ويقول متحدثا إلى نفسه ومثيرا للاضطراب لشدة سخفه. ثم يمضي في الإملاء: «ماذا؟ أأحمل إلى الأبد ثقل هذا الخزي؟ ماذا؟ أأشعر إلى باب القبر بأن الدم يسيل من جرحي قطرة قطرة؟» ثم يقطع الإملاء متحدثا إلى نفسه: هذا الكتاب سخيف لا يشبهه في السخف إلا القارئ الذي قد يجد فيه متاعا. ثم يستأنف الإملاء: «وقد أخذ البرد يسقط.» وهنا يطرق الباب طرقا عنيفا. حسن. امرأتي الآن. يضع قلمه، ولكن طرق الباب يستمر كأنه المطر. نعم دقيقة، يا للشيطان! يذهب إلى الباب فيفتحه.
المنظر الثاني
صفحة غير معروفة