أنا هنا كل يوم لا أبرح شواطئ بلادي، أحرسها ليل نهار.
أنا هنا في خواطر الناس، في صدرك وصدورهم.
أنا في النور المتدحرج مع الفجر على القنن والأوداء.
أنا في الماء المتدفق من الينابيع، المهرول نحو البحر.
أنا في أغصان الأرز والصنوبر والشربين المرتفعة المتمايلة في الهواء.
أنا في أرج الزهر وفي سنابل السهل.
أنا هنا، عبثا ينساني أو يتناساني الناس؛ فسأظل الهادي، وسأظل الطريق، وسأظل الخير. - تباركت من نعمة ومن محبة ومن خير!
ورأيتني أتفهم سبب الشوق الذي يغمرني ويدفع بي نحو النور والينابيع والأغصان والجبال والأوداء، وأسمع الصلاة الصامتة التي تتصاعد من أعماقي في خشوع وإيمان ورهبة كلما نظرت إلى هذا الجبل، أو كلما لمست ترابه وعببت من ينابيعه وأصغيت إلى أنغامه، أو كلما رميت بنفسي في أمواه بحره. - تباركت ملكرت إله البحر، تباركت طريق المعرفة، تباركت، تباركت.
فابتسم الفتى ورفع يمينه في حركة من يبارك وقال: لقد خلقت لكم البحر أهل بلادي، وأنتم منذ ذلك العهد وعيونكم أبدا إليه وقلوبكم ممتلئة منه، قد تعتصمون في الجبال وتنفخون الحياة في الصخور، ولكنكم تتطلعون إليه وتنزلونه وترفعون فوقه الأشرعة وتباركونه فكأنكم منه، من قطراته، وكأن نفوسكم مكونة من زرقته.
إن بينكم وبينه لنسبا؛ أي أثر ترك لكم بعل، وأي مأثرة خلف لكم؟ لقد تناسيتم أدونيس وعشتروت، فهلكا تحت غبار السنين، أما أنا فقد خلقت لكم البحر فدخلت إلى قرارات نفوسكم، وتغلغلت في أعماقها الخفية، وعبثا تنسون اسمي وتعبدون آلهة غيري، فأنا الحي الذي لا يموت في ضمائركم وضمائر بنيكم ما دام هذا البحر الذي تراه هنا ينسج أحلامكم، ويصقل عقولكم، ويفجر عواطفكم، وإنها لحكاية طريفة تلك التي حدتني أن أخلق هذا البحر، فأكون أمة وأميزها من سائر أمم الأرض على كر العصور.
صفحة غير معروفة