رسالة في أصول الفقه - ضمن «آثار المعلمي»
محقق
محمد عزير شمس
الناشر
دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع
رقم الإصدار
الأولى
سنة النشر
١٤٣٤ هـ
تصانيف
الرسالة الرابعة
رسالة في أصول الفقه
19 / 295
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله الذي هدانا لدينه الذي ارتضاه، وعلَّمنا من أصول الفقه ما أوضح لنا سبيلَ هداه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد، فإني ممن عُدَّ لقلة العلماء عالمًا، فصار ينتابني بعض طلبة العلم، فلا يَسَعُني إلا أن أُسعِفهم بمرادهم، لا على أنني عالم معلِّمٌ، بل على أنِّي طالبُ علمٍ من جملتهم، أذاكرهم على حسب وُسْعي.
ومن جملة ما التمس مني القراءة في علم أصول الفقه، فوجدتُ الكتب التي بين أيدي الناس في هذا العلم على ضربين:
الضرب الأول: كتب الغزالي ومن بعده.
الضرب الثاني: بعض مختصرات لمن قبله، كاللمع للشيخ أبي إسحاق، والورقات للجويني.
فأما الضرب الأول فإنه قد مُزِجَ بمباحثَ كثيرةٍ من علم الكلام والأصول المنطقية. وأنا وإن كان لا يتعسَّر عليَّ فهمُ كثيرٍ من هذين الفنين راغبٌ بنفسي عنهما، متحرِّجٌ من الخوض فيهما.
وأما الضرب الثاني فإنه بغاية الاختصار، ولا يخلو مع ذلك عن تعقيد.
فرأيتُ أن أجمع رسالة، أعدُّها لمن يرغب من طلبة العلم في مطالعة هذا العلم معي، أُسهِّل فيها أمهاتِ المطالب بقدر ما أستطيع، معرضًا عن كثير من الاصطلاحات والتدقيقات، مقتصرًا من المباحث الكلامية على ما
19 / 297
لا بدَّ منه، سالكًا ــ على قلَّة بضاعتي ــ مسلكَ التحقيق.
وأنا أنصح طلبة العلم دائمًا أن لا يعدُّوني عالمًا، وأن لا يعتمدوا على قولي، إلا أنني أقول لهم: من اختبرني منكم زمانًا، ثم رأى من قولي ما هو موافق لإمام من أئمة العلم، وفهم الدليلَ، وقوِيَ في نظره= فلا حرجَ عليه إن شاء الله تعالى من اعتماده، وأسأل الله تعالى لي ولهم التوفيق.
19 / 298
المقدمة
وفيها فصول:
الفصل الأول
في معنى قولهم: "أصول الفقه"
فيه خمس (^١) مباحث:
الأول
العلم في أصل الوضع العربي هو المعرفة القطعية
مثال ذلك: أن تُسأل في أواخر النهار: هل غَرَبتِ الشمسُ؟ فتكون قد رأيتها بعينك تغربُ، أو تراها لم تغربْ، أو ترى شعاعَها الذي لا مِريةَ فيه، فأنت هنا عالم بغروبها أو بعدم غروبها. ووراء ذلك حالان:
الأولى: أن لا تكون رأيتَها تغرب، ولا أنت بحيث تراها، ولكن ترى من حال الجوّ ظلمةً وإنارةً ما يُرجِّح في ظنِّك غروبَها أو عدمَ غروبها، أو يخبرك ثقةٌ بأنها غربت أو أنها لم تغرب، أو تكون عندك ساعةٌ فتستدلُّ بها على الغروب أو عدمه. فالحكم الذي في نفسك في هذه الحال يُسمى "ظنًّا"، ومقابله يُسمى "وهمًا".
الثانية: أن لا يحصل لك ما يوجب علمًا ولا ظنًّا، وتكون مترددًا، وهذا يسمى "شكًّا" و"جهلًا".
_________
(^١) كذا في الأصل بدون هاء.
19 / 299
* فوائد:
الأولى: قد يطلق العلم على ما يعمُّ الظنَّ.
الثانية: ينقسم العلم إلى قسمين:
الأول: ما لا يقبل تشكيكًا البتةَ، مثل العلم بأنَّ الاثني عشر إذا قُسِّمتْ بين اثنين على السواء بدون تكسير كان لكل منهما ستة، أو بين ثلاثةٍ كان لكل منهم أربعة، أو بين أربعةٍ كان لكل منهم ثلاثة، أو بين ستةٍ كان لكل منهم اثنان، أو بين خمسة أو سبعة أو تسعة لم تنقسم.
الثاني: ما يقبل التشكيك في الجملة، كمن يرى الشمسَ رائعةَ النهار، فيقال له: لعلك مسحور، فأنت تتوهم أنك ترى الشمس توهُّمًا، أو لعلك مُصابٌ في عقلك، فإنَّ المصاب في عقله يتراءى له ما لا حقيقة له، ولا يشعر بأنه مصاب.
وأمثال هذه التشكيكات لا تقدح في القطع.
قال الله ﵎: ﴿وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ﴾ [الحجر: ١٤، ١٥]، أخبر ﷾ بأنَّ هذا التشكُّك عِنادٌ منهم وحمقٌ وجهلٌ.
الفائدة الثالثة: كثيرًا ما يشتبه الظن بالعلم، كأن تُحضِر بدويًّا لم يسمع بالحاكي "الفونغراف"، ولا المذياع "الراديو"، وتُقعِده عند باب حجرة فيها مذياع فيسمعه، فإنه يقطع بأنَّ في الحجرة إنسانًا يتكلَّم.
ومن تفكَّر في هذا وأمثاله خاف أن يكون كثير من الأمور التي يقطع بها
19 / 300
ويرى أنه عالمٌ بها، إنما هي ظنونٌ قد تتخلف. وطريق الخلاص من هذا مشروحةٌ في موضع آخر.
[ص ٢] الفائدة الرابعة: حكم الذهن الجازم يسمَّى "اعتقادًا"، وقد يكون عن علمٍ، وقد يكون عن ظنٍّ غالبٍ.
والفصل بينهما أنَّ الحكم إن كان خطأً فهو عن ظنٍّ، وهذا هو الذي يُسمَّى بالجهل المركب؛ لأنَّ صاحبه يجهل، ويجهل أنه يجهل، أي لا يعلم حقيقة الحال، ويرى أنه عالمٌ. وأما الجهل البسيط فهو أن يجهل حقيقة الحال، ويعلم أنه جاهل بها.
وإن كان الحكم صوابًا، فللمعتقد حالان:
الأول: أن يكون بنى اعتقاده على دليل يفيد العلم؛ سواءٌ أكان دليلًا معيَّنًا، أم مجموعَ أمورٍ إنما يفيد كلٌّ منها بانفراده ظنًّا ما، ولكنها بمجموعها تفيد القطع، وسواءٌ استطاع المعتقد أن يُعبِّر عن ذلك الدليل أم لم يستطع، وهذا كله علم.
الحال الثانية: أن يكون بنى اعتقاده على دليل يجوز أن يتخلَّف، ولكنه لم يشعر بجواز تخلُّفه؛ كالبدوي الذي تقدم آنفًا، إذا وَقَفْتَه قريبًا من حجرة يسمع فيها غناءً، فإنه يقطع أنَّ فيها إنسانًا يُغنِّي. ودليله قد يتخلَّف كما مر، فهذا اعتقادٌ ليس بعلم، وإن صادف الواقع.
الفائدة الخامسة: كثيرًا ما يطلق الظنّ على الخرْص والتخمين، وهو ما يُبنَى فيه الحكم على أمارة ضعيفة محتملةٍ للتخلُّف احتمالًا ظاهرًا.
والعاقل لا يبني على مثله إلَّا حيث لا خطر، ولكن كثيرًا ما يتقوَّى مثل
19 / 301
هذا الأمر بجهل الخطر، ثم بهوًى أو عصبية، فيمنع صاحبه بحرصه عليه عن أن يسمح لنفسه بالتشكك فيه، فيُبنَى عليه أمرٌ عظيم الخطر، فيسمَّى "اعتقادًا".
الفائدة السادسة: كثيرًا ما يطلق العلم ويراد به الفن، يقال: هذا الكتاب في علم المعاني، أي: في فن المعاني.
* * * *
المبحث الثاني
الأصول جمع أصل، وأصل الشيء ما يقوم أي ينبني عليه؛ كأصل الشجرة، وهو جُرثومتها النابتة في الأرض، وأصل الجدار، وهو أساسه.
قال الراغب (^١): "أصل الشيء: قاعدته التي لو توهمت مرتفعةً لارتفع بارتفاعه سائره لذلك، قال تعالى: ﴿أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ﴾ [إبراهيم: ٢٤] ".
* * * *
المبحث الثالث
الفقه في اللغة: العلم وحسن الفهم.
قال الراغب (^٢): "هو التوصل إلى علم غائب بعلمٍ شاهد، وهو أخصُّ من العلم، قال: ﴿لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا﴾ [النساء: ٧٨] ".
_________
(^١) "مفردات القرآن" (ص ٧٩).
(^٢) المصدر نفسه (ص ٦٤٢).
19 / 302
والفقه في العرف: العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية.
قالوا: والمراد بالعلم هنا ما يشمل الظن؛ لأنَّ غالب أدلَّة الأحكام الشرعية ظني.
تنبيه: عُلِم مما ذُكِر أنَّ الفقيه هو المجتهد، فالمقلِّد ليس بفقيه، ولكن الفقه كثيرًا ما يطلق على كلام المجتهد، وما بُنِي عليه. فإذا عرف المقلِّد ذلك قيل له: "فقيه"؛ بمعنى أنه عارف بما حصل عن فقه المجتهد.
فائدة: الدليل فعيل بمعنى فاعل، مِن "دلَّ على كذا" أي: أوصل إلى معرفته. ومنها: دللتُ فلانًا على الطريق، والدخان يدلُّ على النار، وعرضُ القفا يدلُّ على البلادة.
وقد تكون الدلالة قاطعة، وقد تكون ظنية، وتخصيص بعضهم الدليلَ بما يُعطِي القطعَ اصطلاح.
* * * *
المبحث الرابع
قولهم: "أصول الفقه"، معناه: الأشياء التي ينبني عليها الفقه.
والفقه ينبني على أمور:
أولها: أصول الدين.
ثانيها: علم اللسان.
ثالثها: الكتاب والسنة وما دلَّا عليه من الأدلة الإجمالية، وما اشتمل عليه ذلك من الأدلة التفصيلية.
19 / 303
رابعها: قواعد كلية يتوقَّف عليها فهم الأحكام من الأدلة التفصيلية. وهذه هي (^١) أصول الفقه اصطلاحًا، وذلك كقولنا: "ظاهر القرآن حجة"، و"الأمر يقتضي الوجوب"، و"النهي يقتضي التحريم"، و"الخاصّ يخصُّ العام"، و"العامُّ حجة فيما بقي"، وأشباه ذلك.
* * * *
المبحث الخامس (^٢)
قد عُرِف مما تقدَّم معنى قولهم: "علم أصول الفقه"، فلا نُطيل ببيانه.
_________
(^١) في الأصل: "هو".
(^٢) في الأصل: "الرابع".
19 / 304
الفصل الثاني
في أنَّ أصول الفقه لا بدَّ أن تكون قطعيةً (^١)
شاع بين أهل العلم أنَّ أصول الفقه لا يكفي فيها غلبةُ الظن، بل لا يصحُّ البناء عليها حتى تكون قطعية. ونازع فيه بعض أهل العلم؛ بأنَّ كثيرًا من القواعد التي تُذكَر في أصول الفقه ظنّي.
[ص ٣] كيف وغالبها مختلف فيه بين أهل العلم، ونجد العالم منهم إنما يحتج لقوله بحجة ظنية، وكثيرًا ما يعبِّرون بما يفيد أنه ليس عندهم إلَّا الظن، كقولهم: الأصح، الظاهر، الراجح، وغير ذلك.
وقد أُجيب بأنَّ من القواعد ما هو قطعي بمجموع أدلّةٍ كلٌّ منها بانفراده
_________
(^١) كتب المؤلف صفحة حول هذا الموضوع ضمن المجموع رقم [٤٦٥٨]، وهو ما يلي: اعلم أنَّ مسألتنا هذه أصل من أصول الفقه، وقد نصّ العلماء أنَّ أصول الفقه لا تثبت إلا بالقطع. ونظر فيه بعض المتأخرين قال: في الأصول مسائل لا يتحقق فيها القطع. وجوابه: أنّ أصول الفقه ما هو مستند إلى أصلٍ فوقه قطعي، فيكون الثاني قطعيًّا بهذا المعنى، وهكذا المسائل الفرعية الظنية المستندة إلى الأصول القطعية تكون قطعية بهذا المعنى، فلو شافه ملك زيدًا وعمرًا قائلًا: من جاء منكما إلى رجل فبلّغه عني أمرًا، فإن ظنَّ صدقَه فواجب عليه العمل بذلك الأمر، وإن ظنَّ كذبه فواجب عليه أن لا يعمل به، ثم جاءهما رجلٌ فبلّغهما أمرًا عن الملك فظنَّه زيد صادقًا وظنَّه عمرو كاذبًا، فإن العمل واجب على زيد وإن كان ثبوت ذلك الأمر بخصوصه عن الملك ظنيًّا، وحرام على عمرو وإن كان عدم صحة ذلك الأمر بخصوصه عن الملك ظنيًّا ..
19 / 305
ظني؛ فيعترض بعضُ الناس كلَّ دليلٍ منها بانفراده، فيتوهم أن تلك القاعدة ظنية.
وهذا جواب قد يصحُّ في بعض القواعد لا جميعها، فإنَّ كثيرًا منها لا ترتفع دلالةُ أدلتِه بمجموعها عن الظن.
وقد يجاب بأن تلك القواعد وإن لم تكن قطعية في صحتها، فهي قطعية في وجوب الأخذ بها.
فقولنا: "الأمر يقتضي الوجوب" إذا لم يتيسَّر للمجتهد القطعُ بصحتها، فإنه قد يتتبع عدةَ أوامرَ خاليةٍ عن القرينة المقتضية للوجوب والصارفة عنه، فيستظهر اقتضاءها الوجوبَ، وأنَّ اقتضاء الوجوب مقتضَى الأمر، فيلزمه قطعًا الأخذُ بذلك؛ لاندراجه تحت أصل قطعي، وهو وجوب حمل الكلام على ظاهره ما لم يَصرِفْ عنه صارف. ولا شك أن المراد بالظاهر هنا ما يشمل الظاهر للمجتهد: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا﴾ [الطلاق: ٧].
وقد يُقدَح في هذا الجواب بوجهين:
الأول: أن ظاهر عبارات مشترطي قطعية الأصول، وصريحَ كلام بعضهم أنَّ مرادهم قطعية الصحة، لا قطعية وجوب الأخذ.
الوجه الثاني: أن قطعية وجوب الأخذ عامة في جزئيات الشريعة، فلا وجه لتخصيص الأصول منها.
وبيانه أنه ليس للمجتهد أن يقول في الدين إلا بما رآه دليلًا شرعيًّا، والأخذ بما رآه دليلًا شرعيًّا واجب قطعًا. فيقول في كل جزئية: أرى هذا دليلًا شرعيًّا، والأخذ بما أراه دليلًا شرعيًّا واجبٌ عليّ قطعًا.
19 / 306
نعم، قد يستفاد من هذا جواب آخر، وهو أنَّ القواعد التي تُذكر في أصول الفقه على ضربين:
الأول: الأصول الحقَّة.
الثاني: ضوابط تحيط بجزئياتٍ تندرج تحت أصل من الضرب الأول؛ فكما أنَّ المجتهد إذا سمع قول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ [الْكِتَابَ] ...﴾ [النور: ٣٣]. فرأى أنَّ ظاهر الكلام وجوب المكاتبة بشرطها، لزمه القول بها قطعًا؛ للقطع بوجوب حمل الكلام على ظاهره ما لم يصرف عنه صارف.
فقد وجب الأخذ هنا قبل استحضار قولنا: "الأمر يقتضي الوجوب"، غاية الأمر أنه قد يتبع عدة أوامر إلى آخر ما تقدم، فيضع هذا الضابط: "الأمر يقتضي الوجوب".
وعلى هذا فتسمية هذه الضوابط أصولًا لا يخلو من تسمُّح.
[ص ٤] ويجاب بأنَّ كثيرًا من القواعد إنما هي ضوابط لجزئيات كثيرة تندرج كلها في أصول قطعية.
فمن هذا قولهم: "الأمر يقتضي الوجوب"، و"النهي يقتضي التحريم"؛ فإنَّ الجزئيات التي تدخل تحت كل منهما تدخل تحت أصل "الكلام محمول على ظاهره ما لم يَصرِفْ عنه صارف". ولا ريب أنَّ الظاهر هنا يشمل الظاهر عند المجتهد ــ وقد خالفه غيره ــ، ويشمل الظاهر عنده ظنًّا، ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا﴾.
فإذا نظر المجتهد في نص فيه أمرٌ، فوجد الظاهر اقتضاء الوجوب، علم أنَّ تلك الجزئية داخلة في أصل "الكلام محمول على ظاهره ... إلخ"، فلزمه
19 / 307
القول فيها بالوجوب. ثم ينظر في أوامر أخرى فكذلك، فينظر في سبب ظهور اقتضاء الوجوب في تلك النصوص، فيجده الأمر، فينتظم له ضابطُ: "الأمر يقتضي الوجوب". فإن تيسر القطع في هذا فذاك، وإلَّا كفى فيه الظن.
وقِسْ على هذا قولهم: "النهي يقتضي التحريم".
وربما يندرج تحت الأصل القطعي قاعدة، وتندرج تحت هذه القاعدة قاعدة أخرى، وقد تتعدَّدُ الوسائط.
19 / 308
[ص ٥] الفصل الثاني (^١)
في الأحكام
الحكم في الأصل: القضاء، والمراد به هنا: قضاء الله تعالى على عباده إيجابًا أو تحريمًا أو غيرهما مما يأتي.
* والأحكام على ضربين:
الضرب الأول: التكليفي: وهو خمسة:
الأول: الوجوب، وهو الأمر المحتَّم، على معنى أنه إن لم يفعل كان عاصيًا.
الثاني: الندب، وهو المرغَّب فيه، على أنه إن فعل فقد أحسن، وإلَّا فليس بعاصٍ.
الثالث: الإباحة، وهو الإذن على وجهٍ يُعلَم به استواءُ الفعل والترك.
الرابع: الكراهية، وهي التنفير عن الفعل، على أنَّه إن فعل فقد أساء، ولم يبلغ أن يكون عاصيًا.
الخامس: التحريم، وهو حظر الفعل، على أنَّه إن فعل فهو عاصٍ.
وهنا مسائل:
الأولى: لا خلاف أن الوجوب له درجات، يتفاوت بها ما للعامل من الأجر، وما على التارك من الوزر. فوجوب ردِّ السلام ليس كوجوب الصلوات الخمس.
_________
(^١) كذا في الأصل ..
19 / 309
والفرض والوجوب يتواردان على معنى واحد، إلَّا أنَّ الفرض يُشعِر بتأكد الوجوب. وقد اصطلح الحنفية على تخصيص الفرض لما ثبت بدليل قاطع، والواجب لما ثبت بدليل ظني. كذا نُقل عنهم، ولهم تفصيل، قيل: والخلاف لفظي.
أقول: لكنه يتعلق به خلاف معنوي، سنُلِمُّ به في محله إن شاء الله تعالى.
المسألة الثانية: الوجوب منه عيني؛ وهو ما لا يسقط الحرج عن المكلَّف بفعل غيره له. وإما كفائي؛ وهو ما يطلب حصوله، فإذا قام به بعض المكلَّفين لم يأثم الباقون بتركه.
المسألة الثالثة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وذلك كغسل شيء من حدود الوجه مع الوجه، والسفر لأداء الحج، وتحصيل ما يستر العورة وسترها للصلاة، ونحو ذلك.
فإنَّ الرجل إذا كان هو وولده خارجَ حجرةٍ مقفلةٍ فيها مصحف، وهو يعلم ذلك كله، وقال لولده: ناوِلْني المصحف؛ عُلِم من هذا الأمر أمرُه بالحركة إلى الحجرة وفتحها ونحو ذلك مما لا بدَّ منه للتوصُّل إلى مناولة المصحف.
فأما ما لا يتم الوجوب إلَّا به فلا يجب؛ فالتوبة من الذنب واجبة، ولا يتم وجوبها إلَّا بإتيان الذنب، وليس بواجب. وقضاء الدين واجب، ولا يتمُّ وجوبه إلَّا بأخذ الدين، وليس بواجب. وهكذا تحصيل النصاب للزكاة، وغيره.
19 / 310
المسألة الرابعة: الواجب المخيَّر، يكفي المكلَّفَ أن يأتي بواحدٍ مما خُيِّر فيه، وهذا مقطوعٌ به متّفق عليه.
واختلف في الثواب والعقاب إذا فعل اثنين منها فأكثر معًا، أو تركها كلها.
ومما يدل على الحق فيها: أنه لو أتلف زيد سلعةً لعمرو تساوي عشرة دراهم مثلًا، وكان عمرو محتاجًا إلى سكنى دارٍ لزيد، وأجرتها في الشهر نحو ثلاثة عشر درهمًا، وكان الصرف: الدينار (^١) باثني عشر درهمًا = جاز أن يقول الحاكم لزيد: أَسكِنْ عمرًا دارَك شهرًا، أو ادفَعْ إليه دينارًا أو عشرة دراهم. فلا ريب أنَّ الواجب في نفس الأمر هو عشرة دراهم أو ما يعدِلُها، والتخيير بين ذلك وبين ما زاد عليه هو على طريق الفضل، فإذا لم يفعل شيئًا مما ذُكِر لم يكن عليه إثم إلا بمقدار عشرة دراهم، كما لا يخفى.
المسألة الخامسة: الندب تختلف درجاته في التأكيد وعدمه، وهو والمسنون والمستحبُّ والمرغَّب فيه بمعنى.
واصطلح الحنفية على تخصيص كل منها بدرجة، ولا يتعلَّق بذلك خلافٌ معنوي فيما أعلم.
المسألة السادسة: المكروه تختلف درجاته، وكثيرًا ما يطلق على الحرام، ويميِّزون بينهما بقولهم: "مكروه تنزيهًا" و"مكروه تحريمًا".
وفي المنقول عن السلف ما يقتضي أنهم إنما يطلقون المكروه بمعنى الحرام حيث لم يكن التحريم منصوصًا؛ يتباعدون عن مقتضى قوله تعالى:
_________
(^١) كذا في الأصل.
19 / 311
﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ﴾ الآية [النحل: ١١٦].
المسألة السابعة: الحرمة تختلف درجاتها، ويقسم في الجملة إلى قسمين: لَمَم أو صغائر، وكبائر. وجاء في بعض الذنوب أنها من أكبر الكبائر.
المسألة الثامنة: في التحريم المخيَّر، هناك ثلاث صور:
الأولى: ما يحدث بتعاطي أحد الشيئين مفسدةٌ في تعاطي الآخر، كالمرأة وابنتها في النكاح؛ فإنه إذا نكح البنتَ حرمتْ عليه الأم، وإذا نكح الأم ودخل بها حرمتْ عليه البنتُ.
الصورة الثانية: ما تكون المفسدة في الجمع، كالأختين في النكاح.
ومعلوم في هاتين الصورتين أنه قبلَ تعاطِي أحدِ الأمرين يكون تعاطِيْ كلٍّ منهما حلالًا.
19 / 312