مذكرات شاهد للقرن

مالك بن نبي ت. 1393 هجري
81

مذكرات شاهد للقرن

محقق

(إشراف ندوة مالك بن نبي)

الناشر

دار الفكر

رقم الإصدار

الثانية

سنة النشر

١٤٠٤هـ - ١٩٨٤م

مكان النشر

دمشق - سورية

تصانيف

إنه أمر مغضب، فلم يعد شيء في الواقع يناسب جسدي. الحذاء الأبيض الجميل الذي أوصيت عليه قبل أشهر ثلاثة لأدهش الفتيات الأوربيات في تبسة أصبح يؤلم قدمي. والبرنص بات قصيرًا، لقد أصبحت ملابسي جميعها ضيقة. السروال لم يعد يجاوز ركبتي، أما الحزام فكان يشد وسطي. وكان هذا الأمر مغضبًا لصالح حليمية إذ ما فتئت قامته القصيرة مصدر تعاسته في الحياة. وأضحى نموي الجديد يذكي تعاسته. وعندما نكون معًا على رصيف بصحبة (عبد الحميد نسيب) الذي جاء ينضم إلينا في المدرسة، ويمر شخص ذو قامة معتدلة أمامنا، كان يتعمد السير بالقرب منه ثم يعود إلينا ليقنعنا بقوله: «انظروا، إن لي قامة هذا الرجل». كان الطلبة العائدون من العطلة متعطشين لملذات المدينة الكبيرة: السينما وحصيرة المقهى العربية. (بوكاميه) بدأ يتتابع زبائنه المدرسيون يقصدونه كلما فرغ واحدهم مما حمله من زاد، والحياة في المدرسة عادت لنظامها، والمستجدون من الطلبة بدؤوا يندمجون فيها بعد أن كانوا لأيامهم الأولى دهشين مرتبكين. قمت بزياراتي المعتادة لخالتي (بهية) فوجدتها هذه المرة أكثر شيخوخة وأفقر، وبدا لي منزلها أبلغ تهدمًا من قبل. وكان خالي (علاوة) يجلس في هدوء بالقرب منها ويحك لها ظهرها من آن لآخر. في ذلك البيت المتواضع استعدت ذكريات قديمة فيها شيء من الورع. فداخل هذا المنزل القسنطيني مع محتوياته المادية التي لا قيمة لها يتحدث مع ذلك عن روح ثقافة بروح حضارة. حضارة لاشك متهدمة كمنزل خالتي بهية، إنما هذه الأشياء تحمل على الرغم من بلاها شهادة تثير الحنين إلى ماضٍ وَلَّى ووعد غامض يتجه نحو المستقبل.

1 / 84