مذكرات شاهد للقرن
محقق
(إشراف ندوة مالك بن نبي)
الناشر
دار الفكر
رقم الإصدار
الثانية
سنة النشر
١٤٠٤هـ - ١٩٨٤م
مكان النشر
دمشق - سورية
تصانيف
الجيش الفرنسي لحم أبناء المستعمرات بالكيلو. والرجل المبيع يقبض ثمن نفسه بمقدار وزنه. وأحد هؤلاء المبيعين يدعى (ولد الجبلي) استهلك ثمنه باحتساء الخمر ثم تسكع بالقرب من الأسوار وهو يغني راثيًا نفسه:
«كم بقي لك من الحياة ياجبلي؟ كم بقي لك من الحياة؟».
«يقول الفرنسيون: إنه ليس لديهم ما يكفي من الجند».
وأصبحت هذه الأقوال أغاني للأطفال. وكثيرًا ما كنا ندور داخل الأسوار نغني هذه الأقوال بصوت حاد، ونترنح ذات اليمين وذات الشمال مقلدين صاحبها.
لقد سافر ولد الجبلي ولم أعد أراه فيما بعد، ولكن من وقت لآخر كان يعود بعض الجنود في إجازة تزين صدورهم أوسمة. وكان منهم ملازم يدعى (صدوق شتوكا)، كان بدوره يبهرنا زيه العسكري البراق وقامته الرشيقة.
وفي يوم من الأيام دوى طبل البلدية، وكان يحمله يهودي عجوز يدعى (هافي). فاستقطر الأطفال من كل زاوية في الشارع ثم نادى:
«بيان من عمدة تبسة. في هذا اليوم دخلت أميركا الحرب إلى جانب بريطانيا وفرنسا». ولا أحسب هذا البيان استرعى انتباه جدتي أكثر من البيانات الأخرى للسيد العمدة.
كنت أتابع دائمًا قراءة نشرات الحرب عند البقال سي شريف، الذي كان أحيانًا يترك لي إدارة محله. وكنت في الصف الأول حينما عم الحزن ذات يوم أبناء الأوربيين في تبسة، حتى إن مدام (دوننسان Denoncin) التي يعرفها التلاميذ جيدًا، لأنها تبيع في مخزنها الأدوات المدرسية، غمرها البكاء. فقد أعلنت جريدة (الشؤون العامة لقسنطينة Dépêche de Constantine) بأن الطائرات الألمانية دمرت باريس بقنابلها. وفي صباح يوم آخر حوالي الساعة العاشرة سمعنا ونحن
1 / 38