انتفض السيد ميكلدور واقفا في الحال ليعترض أن جهة الادعاء توجه الشهادة، فأعيدت صياغة السؤال: «هل سمعت أي شيء من المحادثة التي دارت بين الكابتن ديني والسيد ويكهام؟»
أدركت السيدة بيجوت سريعا ما يرمي إليه. «ليس أثناء وجودهما في الحانة يا سيدي، لكن بعد أن تناولا اللحم البارد والشراب، طلبت السيدة ويكهام أن يحمل صندوقها إلى الطابق الأعلى حتى يتسنى لها أن تبدل ملابسها قبل أن ينطلقوا إلى بيمبرلي. ولم تكن سترتدي فستان الحفل، وإنما شيئا لطيفا لتدخل به منزل بيمبرلي. وقد أرسلت سالي وهي خادمتي لمساعدتها. وبعد ذلك ذهبت إلى المرحاض في الباحة، وحين فتحت الباب بهدوء لكي أخرج منه، رأيت السيد ويكهام والكابتن ديني يتحدثان معا.» «وهل سمعت ما كانا يقولان؟» «سمعت يا سيدي. حيث لم يكونا بعيدين عني سوى بضعة أقدام. رأيت أن وجه الكابتن ديني كان شديد البياض. وقد قال: «كان الأمر خداعا من البداية إلى النهاية. أنت أناني تماما. ليس لديك أدنى فكرة عما تشعر به المرأة».» «وهل أنت واثقة من تلك الكلمات؟»
ترددت السيدة بيجوت. «في الواقع يا سيدي، ربما أخطأت في ترتيب الكلمات، لكن لا شك أن الكابتن ديني قال إن السيد ويكهام أناني، وإنه لا يفهم كيف تشعر النساء، وإن هناك خداعا من البداية إلى النهاية.» «وماذا حدث حينها؟» «لم أكن أريد للسيدين أن يرياني وأنا أغادر المرحاض؛ لذا فقد أغلقت الباب حتى آخره تقريبا، ورحت أراقبهما من الفتحة حتى ذهبا.» «هل تقسمين على أنك سمعت هذه الكلمات؟» «في الواقع، أنا حلفت اليمين بالفعل يا سيدي. وأنا أدلي بشهادتي بموجب ذاك اليمين.» «فعلا أيها السيدة بيجوت، وأنا مسرور من أنك تدركين أهمية هذه الحقيقة. ماذا حدث بعد أن دخلت مرة أخرى إلى الحانة؟» «دخل السيدان بعدها ببرهة قصيرة يا سيدي، وصعد السيد ويكهام إلى الغرفة التي خصصتها لزوجته. ولا بد أن السيدة ويكهام كانت قد انتهت من تبديل ملابسها حينها حيث نزل السيد ويكهام وقال إن الصندوق قد أعيد إغلاقه، وإنه جاهز لينقل إلى العربة. ثم ارتدى السيدان معطفيهما وقبعتيهما ونادى السيد بيجوت على برات من أجل أن يحضر العربة.» «وكيف كان حال السيد ويكهام حينها؟»
ساد الصمت لحظة وكأن السيدة بيجوت لم تكن واثقة من معنى سؤاله. فقال هو بشيء من نفاد الصبر: «أكان مستفيقا أم كانت هناك علامات على تناوله الشراب؟» «بالطبع كنت أعرف أنه تناول الشراب يا سيدي، وقد بدا وكأنه حظي بأكثر من كفايته. أعتقد أن صوته كان مدغما حين قال وداعا. لكنه كان لا يزال ثابتا على قدميه، ودخل العربة من دون أي مساعدة، ثم انطلقوا في طريقهم.»
وساد الصمت ثانية. ثم نظر محامي جهة الادعاء في أوراقه وقال: «شكرا لك سيدة بيجوت . هلا تمكثين في مكانك في الوقت الراهن من فضلك؟»
ونهض جيريميا ميكلدور. وقال: «إذن، إذا كان هناك حديث غير ودي - ولنقل بأنه كان خلافا - فهو لم ينته بالصراخ أو استخدام العنف. هل لمس أي الرجلين الآخر أثناء المحادثة التي سمعتها في الباحة؟» «لا يا سيدي، ليس على حد ما رأيت. كان من الغباء أن يتحدى السيد ويكهام الكابتن ديني للدخول معه في عراك. فقد كان الكابتن ديني في رأيي أطول منه ببضع بوصات، وأقوى منه بنية.» «وهل رأيت حين دخلا إلى العربة إن كان أي منهما مسلحا؟» «كان الكابتن ديني مسلحا يا سيدي.» «إذن وعلى حد ما تقولين، كان الكابتن ديني - وبغض النظر عن رأيه في سلوك رفيقه - مسافرا في العربة معه من دون أن يقلق بشأن وقوع اعتداء جسدي عليه؟ فقد كان هو الأطول والأقوى منه بنية. هل كان هذا هو الموقف على حد ما تذكرين؟» «أعتقد ذلك يا سيدي.» «ليس الأمر بما تعتقدين سيدة بيجوت. هل رأيت الرجلين يدخلان إلى العربة، وكان الكابتن ديني وهو الأطول بينهما مسلحا؟» «أجل يا سيدي.» «إذن وحتى لو كانا قد تشاجرا، فإن حقيقة أنهما كانا يسافران معا لم تكن لتثير قلقك؟» «كانت السيدة ويكهام تسافر معهما يا سيدي. لم يكونا ليشرعا في عراك بينهما والسيدة ويكهام برفقتهما في العربة. كما أن برات ليس بأحمق. وعلى الأرجح، لو وقع أي شجار بينهما، كان برات ليوجه الجياد نحو العودة إلى الحانة.»
وطرح جيريميا ميكلدور سؤالا أخيرا. «لماذا لم تقدمي هذه الشهادة في التحقيق سيدة بيجوت؟ ألم تكوني مدركة لأهميتها؟» «لم يسألني أحد عن ذلك يا سيدي. فقد أتى السيد براونريج إلى الحانة بعد التحقيق وسألني حينها.» «لكن لا شك أنك أدركت قبل حديث السيد براونريج معك أنك لديك شهادة ينبغي تقديمها أثناء التحقيق؟» «ظننت يا سيدي أنهم سيأتون ويسألونني إن هم أرادوا مني أن أتحدث، ولم أكن لأجعل جميع من في لامتون يسخرون مني. فمن الشائن ألا تتمكن امرأة من الذهاب إلى المرحاض من دون أن يسأل الناس عن ذلك على الملأ. ضع نفسك مكاني أيها السيد ميكلدور.»
هنا انطلقت قهقهات قصيرة سرعان ما كتمت. وقال السيد ميكلدور إنه لم يكن لديه المزيد من الأسئلة، وبعد أن ثبتت قبعتها على رأسها بقوة أكبر، راحت السيدة بيجوت تخطو خطوات ثقيلة عائدة إلى كرسيها في ارتياح واضح وسط همسات التشجيع من داعميها.
الفصل السادس
أضحت إدارة سيمون كارترايت للدعوى القضائية واضحة الآن وكان دارسي يقدر مهارته في ذلك. فالقصة تحكى مشهدا تلو الآخر، الأمر الذي فرض الترابط المنطقي والمصداقية على السرد كما خلق في قاعة المحكمة شيئا من الترقب الحماسي الخاص بالمسرح، بينما كانت تطورات القصة تتكشف أمامهم. لكن دارسي فكر في ماهية الأغراض الأخرى لمحاكمة على جريمة قتل سوى الترفيه العام؟ كان الممثلون يرتدون ملابسهم من أجل أداء الأدوار المخصصة لهم، وكان هناك ضجيج التعليقات السعيدة قبل أن تظهر الشخصية المخصصة للمشهد التالي، ثم تأتي اللحظات التي تكون فيها الدراما في أقصى مستوياتها حين يدخل الممثل الرئيسي إلى قفص الاتهام، ولا يكون أمامه أي مهرب من مواجهة المشهد الأخير؛ الموت أو الحياة. كان هذا مثالا على تطبيق القانون الإنجليزي وهو قانون يحظى بالاحترام في أوروبا بأسرها، وهل هناك سبيل آخر لإصدار حكم مثل هذا بشكل عادل بكل ما يتضمنه من قطعية وحسم يبعثان على الارتياع؟ كان قد استدعي دارسي ليكون حاضرا، لكنه حين نظر حوله في قاعة المحكمة، ورأى الألوان البهية والقبعات التي تتحرك يمنة ويسرة في أيدي الأغنياء المتأنقين، وكذلك كآبة الفقراء، شعر دارسي بالعار ليكون واحدا منهم.
صفحة غير معروفة