قالت إليزابيث: «السيدة بينجلي نائمة على الأريكة في غرفة السيدة ويكهام، وستكون بيلتون مناوبة، كما سأكون أنا في مناوبة بعدها. سأحرص على أن يكون كل شيء على ما يرام هناك قبل أن أخلد إلى النوم. ولا يسعني سوى أن أتمنى لكما ليلة هادئة وقسطا جيدا من النوم. وحيث إن السير سيلوين هاردكاسل سيكون هنا بحلول التاسعة صباحا، فسأطلب أن يحضر طعام الإفطار مبكرا. أما الآن فطابت ليلتكما.»
الفصل الثاني
حين دخل دارسي إلى غرفة المكتبة، وجد أن ستاوتن والسيدة رينولدز قد بذلا ما بوسعهما ليحصل هو والكولونيل على أقصى قدر من الراحة. زودت النار مجددا بالفحم، وغلفت بضع قطع من الفحم في الورق من أجل إضافة الهدوء، وكان الخشب المضاف موضوعا في الموقد وجاهزا للاستخدام، وكذلك كان هناك الكثير من الوسائد والأغطية. وعلى طاولة مستديرة تبعد عن النار بعض الشيء كان هناك صحن مغطى يحتوي على فطائر متبلة، وأباريق من النبيذ والماء وبعض الأطباق والأكواب والمناديل.
وكان دارسي يعتقد في قرارة نفسه أنه لم يكن هناك داع للسهر والحراسة. حيث كان الباب الأمامي لمنزل بيمبرلي موصدا بأقفال ومزاليج مزدوجة، وحتى لو كان ديني قد قتل على يد غريب - ربما كان شخصا فارا من الجيش شعر بالخطر، فاستجاب إلى ذلك بعنف قاتل - فإن هذا الغريب بالكاد يشكل خطرا أو تهديدا على منزل بيمبرلي، أو على أي أحد فيه. وكان دارسي يشعر بالتعب والقلق، فكان في حالة من الاضطراب كان النوم فيها - حتى ولو كان ممكنا - سيبدو كتنصل من المسئولية من جانبه. وكان ما يشغل ذهن دارسي هو هاجسا يراوده بأن هناك خطرا ما يتهدد بيمبرلي ولكنه غير قادر على تشكيل أي فكرة منطقية عن ماهية ذلك الخطر. وكان حصوله على سنة من النوم في أحد الكراسي ذات الأذرع في غرفة المكتبة بصحبة الكولونيل سيعطيه قسطا جيدا من الراحة لما تبقى من الليل.
وحيث استقر الرجلان في كرسيين عاليين ومبطنين تبطينا مريحا - حيث جلس الكولونيل في الكرسي القريب من النار في حين جلس دارسي في الكرسي البعيد عنها قليلا - واتته فكرة أن ابن عمه ربما اقترح هذه السهرة؛ لأنه كان لديه شيء يسر به إليه. فلم يسأله أحد عن انطلاقه على صهوة جواده قبل الساعة التاسعة، وكان يعلم أن إليزابيث وبينجلي وجين كانوا يتوقعون منه - كما يتوقع هو نفسه - أن يقدم لهم تفسيرا لذلك. ولم يقدم هذا التفسير بعد لأن هناك حساسية معينة تمنع طرح سؤال في هذا الشأن، لكن هذه الحساسية لن تمنع هاردكاسل من السؤال حين يعود؛ ولا بد لفيتزويليام أن يعلم أنه العضو الوحيد في العائلة والضيوف الذي لم يقدم بعد حجة غيابه. ولم يفكر دارسي قط ولو للحظة واحدة أن الكولونيل متورط في مقتل ديني، لكن صمت ابن عمه كان باعثا على القلق، وما كان أكثر إثارة للدهشة بالنسبة إلى رجل يتسم بهذا الطابع الرسمي أن صمته هذا كان فظا.
ومما أثار دهشة دارسي أنه وجد أنه يشعر بالنعاس بصورة أسرع مما كان يتوقع، وكان يبذل جهدا من أجل الإجابة فقط على الكلام العادي الذي كان يسمعه وكأنه آت من مكان بعيد. وكان يمر ببعض لحظات النعاس والغفوة بينما كان يتقلب في كرسيه، ويحاول عقله أن يستوعب مكانه. وكان دارسي ينظر إلى الكولونيل الممدد في الكرسي أمامه بنظرات سريعة، فكان وجهه متوردا بفعل ضوء النار وأنفاسه عميقة ومنتظمة، ونظر أيضا إلى لهب النار المتخافت، وهو يلعق قطعة خشب مسودة. واستحث دارسي قواه من أجل أن يقوم عن الكرسي بأطرافه المتصلبة، وبحذر بالغ، أضاف بضع قطع من الخشب وكتلا من الفحم، وانتظر حتى اشتعلت بكاملها. ثم عاد إلى كرسيه، وغطى نفسه ببطانية ونامت عيناه.
أما لحظة استيقاظه التالية فكانت مثيرة للفضول. كان استيقاظه وعودته إلى وعيه بالكامل مفاجئا، فكانت كل حواسه في حالة تأهب وانتباه شديد حتى بدا الأمر، وكأنه كان يتوقع هذه اللحظة. كان متكئا على جانبه، ومن خلال جفنيه المغلقين بشكل شبه كامل رأى الكولونيل يتحرك أمام النار، فكان بشكل مؤقت يسد عنه ضوءها الذي هو المصدر الوحيد للإضاءة في الغرفة. وتساءل دارسي ما إن كان هذا التغيير هو الذي أيقظه. ولم يجد دارسي صعوبة في التظاهر بالنوم، فكان ينظر من خلال عينيه شبه المغلقتين. وكان معطف الكولونيل معلقا على ظهر كرسيه، فمد الكولونيل يده يبحث في أحد جيوبه وأخرج منه مظروفا ورقيا. وأثناء وقوفه، أخرج من المظروف ورقة وأمضى بعض الوقت يقرؤها. ثم بعد ذلك لم ير دارسي إلا ظهر الكولونيل، وحركة مفاجئة من ذراعه وفورة من اللهب؛ كانت الورقة تحترق في النار. نخر دارسي نخرة صغيرة وأدار وجهه بعيدا عن النار. في الظروف الطبيعية كان دارسي ليظهر لابن عمه أنه استيقظ، وكان سيسأله إن كان قد حصل على قسط من النوم، وبدت تلك الحيلة الصغيرة خسيسة. لكن الصدمة والرعب اللذين شعر بهما حين رأى جثة ديني للمرة الأولى، وضوء القمر المربك أصابوه بشيء أشبه بزلزال في نفسه لم يستطع أن يبقى ثابتا خلاله على أرض صلبة، وتسبب في أن صارت حوله تلك التقاليد والافتراضات التي حكمت حياته منذ صغره خرابا. وبالمقارنة مع هذه اللحظة المضطربة، كان تصرف الكولونيل الغريب وجولته غير المبررة على حصانه أثناء الليل، والآن حرق تلك الورقة خلسة، مجرد توابع صغيرة، لكنها كانت لا تزال مزعجة ومسببة للقلق.
كان دارسي يعرف ابن عمه منذ الطفولة، وكان الكولونيل دائما ما يتسم بالبساطة، وهو أبعد ما يكون عن الكذب والخداع. لكن حدث تغيير له منذ أصبح هو الابن الأكبر ووريثا لإيرلية. فماذا حدث لذلك الكولونيل الشاب الذي يتسم بالشجاعة والمرح، ذلك الرجل الهادئ الواثق سهل المعشر والمختلف عن دارسي الذي كان يتميز في بعض الأحيان بخجل يكاد يتسبب له بالشلل؟ كان الكولونيل يتميز بأنه أكثر الرجال دماثة وشعبية. لكن وحتى في ذلك الحين كان الكولونيل على دراية بمسئوليات عائلته، ومما هو متوقع من الابن الأصغر. لم يكن الكولونيل ليتزوج قط من امرأة مثل إليزابيث بينيت، وكان دارسي في بعض الأحيان يشعر بأنه فقد شيئا من الاحترام في عيني الكولونيل؛ لأنه قدم رغبته في امرأة على مسئوليات العائلة والطبقة الاجتماعية. ومن المؤكد أن إليزابيث شعرت ببعض التغيير، رغم أنها لم تناقش أمر الكولونيل مع دارسي إلا لتنبهه أن ابن عمه كان على وشك طلب لقاء به ليطلب يد جورجيانا للزواج. وقد شعرت إليزابيث أنه من الصواب أن تعد زوجها من أجل ذلك اللقاء، لكن ذلك لم يحدث بالطبع، والآن لن يحدث أبدا؛ فقد علم دارسي، منذ اللحظة التي أدخل فيها ويكهام ثملا من باب منزل بيمبرلي، أن الفيكونت هارتليب سيبحث في مكان آخر عن كونتيسته المستقبلية. ولكن ما أثار دهشته الآن لم يكن أن هذا العرض لن يتم تقديمه أبدا، بل إنه - وهو الذي كان يعقد آمالا كبيرة على أخته - كان قانعا بأن هذا العرض على الأقل كان عرضا لن تميل أخته للقبول به.
ولم يكن من المثير للدهشة أن ابن عمه يشعر بالضغط الشديد تجاه ثقل مسئولياته المقبلة. وفكر دارسي في قلعة أجداده الكبيرة، ومناجم الفحم الكثيرة التي يمتلكها، وقصر مالك العزبة في وورويكشاير بأمياله المربعة من الأراضي الخصبة، وفي احتمالية أن الكولونيل - حين يرث ميراثه - قد يشعر بأن عليه أن يتخلى عن المهنة التي أحبها ويتخذ مقعدا له في مجلس اللوردات. كان الأمر وكأن الكولونيل يقوم بمحاولة منضبطة لتغيير جوهر شخصيته وتساءل دارسي ما إن كان هذا ممكنا أو حصيفا. ربما كان الكولونيل يواجه مشكلة أو التزاما شخصيا، يختلف في نوعه عن مشكلات مسئولية ميراثه؟ وفكر ثانية كيف كان من الغريب أن ابن عمه كان حريصا على تمضية الليلة في غرفة المكتبة. إن كان يريد التخلص من خطاب ما؛ فهناك نيران كثيرة موقدة بالفعل في المنزل ، وكان بإمكانه أن ينفرد بلحظة خاصة له، ولماذا كان يتخلص منه الآن وبهذه الطريقة السرية؟ هل حدث شيء جعل التخلص من الورقة أمرا ضروريا؟ وفي محاولة منه ليريح نفسه أكثر من أجل الحصول على قسط من النوم، أخبر دارسي نفسه أن هناك ما يكفي من الألغاز، وأنه ليس في حاجة إلى إضافة المزيد، وفي النهاية استسلم للنوم.
واستيقظ على الكولونيل وهو يزيح الستائر بشكل مزعج، ثم وبعد أن نظر إلى الخارج، أعاد إغلاقها وقال: «ليس هناك ضوء بعد. أعتقد أنك حصلت على قسط جيد من النوم.» «ليس جيدا بما فيه الكفاية، لكن لا بأس.» ثم مد دارسي يده ليمسك بساعته. «كم الساعة الآن؟» «السابعة تماما.» «أعتقد أنني ينبغي أن أذهب وأرى إن كان ويكهام قد استيقظ. فإن فعل فسيكون في حاجة إلى شيء من الطعام والشراب، وقد يحتاج الحراس إلى بعض الطعام. لا يمكننا أن نريحهم، فقد كانت تعليمات هاردكاسل صارمة، لكن أعتقد أنه يتعين على أحد أن يطلع على الغرفة. فإن كان ويكهام قد استيقظ في الحالة نفسها التي وصفها الدكتور ماكفي حين أحضر إلى هنا، فقد يجد براونريج وميسون صعوبة في السيطرة عليه.»
صفحة غير معروفة