ردت زكية هامسة: كنت عمياء وفتحت.
قالت زينب وهي لا تزال ترتعد من منظر عينيها: لم تكوني عمياء يا عمتي، عيناك كانتا بخير. ما الذي حدث؟
خيل لزينب أن المرض عاد إلى عمتها زكية، فأمسكت يدها وهي تقول: استريحي يا عمتي، أنت متعبة، لم تنامي منذ أخذوا جلال.
ظلت النظرة شبه المجنونة في عيني زكية، وظل صوتها يهمس: عرفته! عرفته يا زينب!
همست زينب وهي لا تزال ترتعد: من هو الذي عرفته يا عمتي؟
رددت زكية كالشاردة: الله يا زينب.
زادت الرعدة فوق جسد زينب، وأمسكت يد عمتها فوجدتها باردة كالثلج، فقالت: استغفري الله يا عمتي وتوضئي وصلي، لعل الله يرحمك ويرحمني.
ردت زكية بغضب مفاجئ: اسكتي يا زينب، أنت لا تعرفين شيئا، أنا التي أعرف. •••
لم تغمض زكية عينيها، ظلت جالسة في مكانها المعتاد في المدخل الترابي؛ عيناها الواسعتان السوداوان شاخصتان في الظلمة، تخترقان الظلمة وتصلان إلى الباب ذي الأعمدة الحديدية، لم تكن تعرف بالضبط ماذا تنتظر، لكنها ما إن رأت العينين الزرقاوين تظهران من خلف الباب حتى نهضت. لم تكن تعرف ما الذي تنوي أن تفعله، لكنها دخلت الزريبة حيث كانت الفأس ملقاة في الركن. انثنى جسدها الطويل النحيل وقبضت يدها الكبيرة الخشنة على مقبض الفأس، سارت قدماها الكبيرتان الحافيتان وحدهما خارج الزريبة، ثم خارج البيت، اجتازت الحارة الصغيرة التي تفصل بين بابهم والباب الحديدي، رآها العمدة قادمة نحوه؛ فظن أنها إحدى العاملات في أرضه، ولكنه ما إن اقترب منها حتى رأى ذراعها الطويلة ترتفع في الهواء وفي نهايتها الفأس. قبل أن يسقط الفأس فوق رأسه ليهشمه، كان قد رأى عينيها وفقد الوعي من شدة الذعر. •••
تحركت العربة وزكية داخلها جالسة صامتة كما كانت تجلس في المدخل الترابي، والعربة تسير في شوارع لم ترها ولم تعرفها؛ دنيا أخرى غير الدنيا، رأت من خلال شق في النافذة نيلا يشبه نيل كفر الطين، لكنه ليس هو النيل الذي عرفته. توقفت العربة أمام بوابة ضخمة؛ سارت مع الرجال ومن حول يديها الحديد، عيناها السوداوان الواسعتان شاخصتان إلى الأمام، وشفتاها الجافتان مطبقتان ملتصقتان، كمن نسي الكلام أو رفض النطق، لكنهم كانوا يرون شفتيها تنفرجان من حين إلى حين عن شق صغير، وصوتها الهامس يسمع كأنما تكلم نفسها قائلة: «عرفته! أنا عرفته!» وفي منتصف الليل وهي نائمة إلى جوار المسجونات، تظل عيناها مفتوحتين شاخصتين في الظلمة وشفتاها مطبقتين في صمت. سمعتها إحدى المسجونات في ليلة من الليالي تهمس لنفسها قائلة: «عرفته!» فسألتها في استطلاع: عرفت من يا خالة؟!
صفحة غير معروفة