لم يره أحد مع نفيسة ولا مع أية واحدة أخرى من كفر الطين. كانوا يرونه كل يوم في الحقل يحرث أو يعزق. حتى في يوم الجمعة حين يذهب كل الرجال إلى المسجد من أجل صلاة الجماعة خلف الشيخ حمزاوي، يظل هو واقفا في الحقل يحرث أو يعزق، وبعد الغروب يرونه جالسا عند رأس الحقل على حافة الجسر شاخصا إلى النيل ورءوس الأشجار العالية من بعيد، وحينما يمر به أحد لا يحرك رأسه، وإذا قرأه أحد السلام رد بصوت هادئ دون أن يلتفت.
في اللحظة التي كادت تنفرج شفتاه ناطقا باسم علوان، لم يكن يعرف لماذا خطر له هذا الاسم بالذات، لكنه كان قد رآه وجها لوجه مرة واحدة. وكانت هذه المرة الواحدة كافية لأن يرى عينيه، وحينما رأى عينيه وجد أنهما ليستا كعيون رجال كفر الطين، وإنما هما مرفوعتان إلى أعلى بتلك النظرة الشامخة التي تشبه نظرة نفيسة، وارتبطت عينا علوان بعيني نفيسة في ذاكرته لحظة قصيرة لا تزيد عن اللحظة التي تلتقي فيها عينا شخص سائر في الطريق بعيني شخص آخر، واختفى الشخصان وسقطت اللحظة في العدم شهورا طويلة بل سنوات.
لكن ما إن برز أمام عينيه وجه علوان حتى اتضح له أن شيئا لا يسقط في العدم، ولو كان قطرة في بحر أو لحظة قصيرة في خضم الزمن. وحينما ردد أبوه عليه السؤال سمع صوتا داخله يقول: «علوان.»
اتسعت عينا طارق بالدهشة حين سمع أباه يقول له: أتقول علوان؟
لم يكن قد فتح شفتيه بعد أو خيل له ذلك، لكنه ما إن سمع اسم علوان بصوت أبيه حتى خرج الوجه من الظلام إلى النور، فأصبح حقيقيا، وخرج الصوت من الداخل إلى الخارج وأصبح مسموعا. وقال طارق: علوان؟
ورد العمدة مؤكدا: علوان.
دخل في تلك اللحظة من الباب الحديدي الشيخ حمزاوي، ومن خلفه الشيخ زهران ومن خلفه الحاج إسماعيل، وحينما سمعوا العمدة يقول «علوان»، هتفوا ثلاثتهم في نفس واحد: «علوان». ورن صدى صوتهم خارج بيت العمدة، وصعد فوق الأسوار، ونفذ في الجدران السوداء الطينية، وقفز إلى الأسطح، ودخل البيوت، وسار إلى الحقول، ثم هبط إلى الحواري والأزقة قبل أن تهبط الشمس عند المغيب. وحينما أطل طارق برأسه من الشرفة المطلة على النيل ليشهد غروب الشمس سمع أطفال كفر الطين يلعبون فوق الجسر ويغنون منشدين:
جمال يا جمال نفيسة وعلوان ...
نفيسة يا نفيسة علوان في التقفيصة ...
علوان يا علوان نفيسة في الغيطان ...
صفحة غير معروفة