أحيانا حين كنت توصلني إلى الباب كنت أحس كأنما هناك حركة سريعة من يدك فوق يدي، أو من ذراعك حول خصري، لم تكن حركة، وإنما هي لمسة خفيفة سريعة، ما إن تحدث حتى تنتهي، بل لعلها لم تكن أيضا لمسة؛ لأن مسافة ما كانت تظل دائما بين يديك وجسمي، مسافة صغيرة جدا كالشعرة، ولكنها كافية دائما لأن تفصلنا، ولأن تبدد عندي لحظة اليقين. وأسأل نفسي مرة أخرى أحقيقة هو أم حلم؟ لماذا تظل دائما هذه المسافة؟ أهو خوفي منك؟ أم خوفك مني؟ وهل هناك حقا ما يخيف؟
أردت مرة أن أبدد الحلم وأمد يدي وأمسك باليقين، دعوتك عندي في بيتي، هل تذكر التاريخ؟ وسمعت في صوتك ذبذبة غامضة تشبه الدهشة أو التردد أو الخوف أو عدم اليقين. ولم تأت ولم أسألك لماذا. كنت أعرف أنك مثلي تريد دائما أن تتأرجح بين الشك واليقين.
أهناك شيء يبدد الشك؟ أهناك دليل على شيء؟ ما من نقطة محدودة بيني وبينك أستطيع الإمساك بها، ولا كلمة تصلح، ولا لغة، ولا حركة، ولا لمسة، ولا شيء بيننا على الإطلاق يؤكد أي شيء. ولكن هناك شيء واحد أنا على يقين منه (وهذا أيضا غير قابل للإثبات)، وهو أنك تشعر نحوي تماما بما أشعر به نحوك، وبالقدر نفسه، وبالشكل نفسه، وفي اللحظة نفسها. هل أنا مخطئة؟ قد أكون وقد لا أكون.
وهكذا أنا دائما يا صديقي، أقترب منك وأبتعد، أظهر وأختفي، أتقدم إلى الأمام ثم أتراجع، أصمم على المواجهة ثم أهرب. واليوم يمر وراء اليوم، والشهر وراء الشهر، عشرون شهرا أو أكثر. قلت لي مرة إن الأيام من حياتي تمر، واليوم الذي يذهب لا يعود، وأنني أضيع عمري بحثا عن المستحيل أو عن المطلق، وأن أحدا لن يملأ عيني إلا الله. كنت في ذلك اليوم أخفي عيني وراء نظارة كبيرة، وطلبت مني أن أخلع النظارة؛ فخلعتها، وأصبحت عيناك في عيني، وكدت أعرف وأقول إنك في حياتي الحقيقة واليقين، لكن جرس التليفون دق أو جرس الباب أو حركة ما حدثت. ربما أطل علينا وجه طفل من أطفالك، ربما أنت حركت عينيك بعيدا عن عيني، ربما أنت حركت رأسك أو ذراعك، وخيل إلي أنك تنظر في الساعة.
حركة ما سريعة - عن قصد أو عن غير قصد - لم تستغرق أكثر من ثانية أو جزء من الثانية، ولكنها كانت كافية لأن تمزق الشعرة الحريرية الرقيقة التي يمتد فوقها الإحساس باليقين.
قلت لي مرة إنني من الحياة أهرب، وعن الحب أعجز، وأنني مصابة بمرض العصر، وأنني في حاجة إلى أقراص أو دواء، أو شيء من هذا القبيل. ودهشت ولم أدهش، وحزنت على نفسي ولم أحزن، وأوشكت أن أحس المرض وأبتلع أقراص نهاية القرن العشرين. وسألتني مرة أو أكثر من مرة لماذا لا أبتلع الأقراص ككل المثقفين؟ ولكني يا صديقي لا أنتمي إلى هذا العصر، ولست من هؤلاء المثقفين، ولا أقرأ الصحف كما يقرءون، وعيناي تغمضان - رغم أنفي - حين تلمحان الصحف، وأذناي تنغلقان حين يرتفع في الجو صوت قراءة الأخبار. وحين أسير في الشارع لا أرى الوجوه، وأبدو للناس كالعمياء الصماء لكني يا صديقي لست عمياء ولست صماء. أنا أرى كل وجه يمر أمامي، وأقرأ كل حرف يسطر على وجه الأرض، وأسمع كل صوت، وإن كان دبيب النملة أو دقة قلب يتيم في صدر طفل. هل تظن أنني أهذي؟ هل تظن حقيقة أنني لا أرى؟ ولكنني رأيتك مرة وأنا أسير في شارع التحرير. كانت سيارتك مسرعة، وكل السيارات مسرعة، وكان وجهك مرهقا، وكل الوجوه مرهقة، وكانت عيناك حزينتين، وكل العيون حزينة، وكان الزحام شديدا والأجسام متلاصقة والعربات متلاصقة، والهواء راكد لاصق، والكل يلهث عرقا في الخضم، والكل يكاد يختنق ويصرخ مستغيثا طلبا للنجاة. لكن أحدا لا يرى أحدا، ولا أحد يسمع أحدا، ولا أحد ينقذ أحدا.
استطعت - رغم السرعة - أن أتأمل وجهك لحظة خاطفة، لم تكن ملامحك هي ملامحك، ولم تكن عيناك هما عينيك. وقلت لنفسي هو أم ليس هو؟ واستدرت خلفي بسرعة، كانت سيارتك قد اختفت في الخضم، لكني استطعت أن ألتقط الرقم، ووقفت لحظة جامدة، كنت أسأل نفسي من أين هو قادم؟ وإلى أين هو ذاهب؟ ولماذا هو يجري مسرعا؟!
كنت أعرف أنك قادم من مكتبك، وأنك ذاهب إلى بيتك، أو إلى موعد مع كبير أو صغير، مع مريض أو سليم. كنت أعرف كل ذلك، لكني وقفت أتلفت حولي في ذهول كأنني لا أعرف شيئا.
ثم سرت في طريقي مرة أخرى، رأسي ثقيل وقلبي ثقيل، وذلك الاكتئاب البارد الزاحف، وسؤال بغير جواب: لماذا كل هذا؟ ومن أجل ماذا؟ أهو الجري وراء المال؟ أهو السعي وراء السلطة؟ أهو البحث وراء الشهرة؟ ولكن عندك من كل هذا الكثير، فماذا إذن؟ أهو الحب؟ ولكن أيمكن للحب أن يجعل الوجه مرهقا والعينين حزينتين؟
وأحسست أنني أكره هذه المدينة، وأكره هذه الوجوه، وأكره هذه العيون، وأكره عقارب الساعة، وكل شيء. حاولت من شدة الكراهية أن أغلق عيني وأغلق أذني وأغلق مسام جسدي. رغبة عارمة في الجري بأقصى سرعتي والابتعاد عن كل شيء. رغبة عارمة في الانفصال عن الكون إلى حد الموت.
صفحة غير معروفة