موسوعة التاريخ الاسلامي
صفحة ١
موسوعة التاريخ الاسلامي العصر النبوي العهد المكي الجزء الأول تأليف الشيخ محمد هادي اليوسفي الغروي
صفحة ٣
قم - ص. ب 3654 / 37185 الهاتف: 737117 الكتاب: موسوعة التأريخ الاسلامي / ج 1 المؤلف: الشيخ محمد هادي اليوسفي الغروي الناشر: مجمع الفكر الإسلامي الطبعة: الأولى / ربيع الثاني 1417 ه. ق تنضيد الحروف: مجمع الفكر الإسلامي الليتوغراف: نگارش - قم الطبعة: مؤسسة الهادي - قم الكمية: 3000 نسخة جميع الحقوق محفوظة لمجمع الفكر الإسلامي
صفحة ٤
بسم الله الرحمن الرحيم
صفحة ٥
كلمة المجمع يعتبر التأريخ الإسلامي مصدرا مهما من مصادر المعرفة الإسلامية باعتبارين.
الأول: ان التأريخ - بشكل عام - ترجمة حقيقية وتعبير واقعي عن الأفكار والآراء والمفاهيم التي تبناها الإنسان على مدى التأريخ فجسدها في سلوكه ونشاطه.
والثاني: ان التأريخ مجموعة تجارب ودروس وعبر كلفت البشرية ضحايا هائلة وطاقات ضخمة، لذلك كان جديرا بإمعان النظر فيه وبذل الجهود الحثيثة لتحليل أحداثه والاهتداء إلى سننه لكي تتوضح للبشرية الحقائق التي ترسم لها خطي السعادة والشقاء.
وتجلت في التأريخ الإسلامي عظمة الإسلام وشموخه وحيويته، فكان مصدرا من مصادر فهم السيرة النبوية فضلا عن قدرته على التعبير عن التجربة الأولى للإسلام القادر على صنع الإنسان الأمثل والمجتمع الأمثل، ولهذا فهو جدير بالدراسة العلمية الموضوعية المعمقة.
صفحة ٧
وتتمثل المهمة الأولى لكل باحث في التأريخ الإسلامي في البحث عن المادة الأساسية للتحليل التأريخي بعد أن كان التأريخ بشكل عام والتأريخ الإسلامي بشكل خاص عرضة للإهمال والتحريف بدءا بمشكلة المنع من تدوين الأحاديث والسنة النبوية الشريفة التي تشكل البنية الأساسية للتجربة الإسلامية الفريدة وانتهاء بإخضاع المؤرخين ونتاجاتهم لأهواء الحكام علاوة على المتاجرة بكل ما يمكن نسبته إلى رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله) وصحابته الكرام من قبل الرواة والمحدثين غير الورعين. فكم من حوادث مهمة لم تدون أو دونت مختزلة بحجة الاختصار أو لاستلزامها الطعن ببعض الحكام من صحابة وتابعين، فأدت إلى تزييف الحقائق التأريخية وتشويهها بما لا يتناسب وعظمة تأريخنا الإسلامي الوضاء.
ومن هنا كان على الباحث الموضوعي والمؤرخ المحقق أن يقوم قبل كل شئ بنقد موضوعي لكل ما جاء في كتب التأريخ والحديث والتراجم والرجال والتفسير بعد عرضه على العقل السليم ونصوص القرآن الكريم ومحكمات السنة النبوية الشريفة، وهذا ما قام به المحقق المتضلع فضيلة الشيخ محمد هادي اليوسفي الغروي في كتابه هذا (موسوعة التأريخ الإسلامي). إذ اعتمد على التتبع اللازم في المصادر الأصلية التي تحتوي على حوادث تأريخية ترتبط بموضوع بحثه، ثم عرضها على القرآن الكريم وأصول السنة الشريفة والعقل السليم، وقد حاول من خلال بحوثه تفنيد ما أورده المستشرقون ومن حذا حذوهم في تشويه معالم الصورة الإسلامية الناصعة، وتقديم الصورة الأقرب إلى الواقع عن الإسلام من خلال تأريخه المجيد. وهذه هي الحلقة الأولى من هذه الموسوعة وتختص بالعهد المكي من العصر النبوي بدءا بحوادث السنة الأولى للهجرة وسوف يستمر البحث في
صفحة ٨
الحلقات الآتية - إن شاء الله تعالى - عن تأريخ الرسول الأكرم وأهل بيته الطاهرين.
ونحن إذ نبارك له جهده المشكور، نتمنى له التوفيق في مواصلة هذا النشاط المبارك. وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.
قسم التأريخ في مجمع الفكر الإسلامي 8 / 9 / 1373
صفحة ٩
تقديم كيف ينبغي أن ندرس تأريخ الإسلام
صفحة ١١
التأريخ قبل الإسلام:
لم يكن للناس قبل الإسلام مادة للتأريخ، اللهم إلا ما توارثوه بالرواية، مما كان شائعا بينهم من أخبار آبائهم وأجدادهم وأنسابهم وشعوبهم وقبائلهم وملوكهم، وما في حياة أولئك من قصص فيها البطولة والكرم والوفاء، وما كان من خبر الأسر التي تناوبت الإمرة على الناس وما قاموا به من تجهيز الجيوش وإقامة الحروب وبناء المدن والقصور، إلى أمثال ذلك، مما قامت فيه الذاكرة مقام الكتاب واللسان مقام القلم، يعي الناس منه ويحفظون ثم يؤدونها كما هي أو بإضافة أو نقيصة، وكثيرا ما كان بإضافات وتحريفات.
كان هذا عند الفرس المجوس، واليهود الإسرائيليين، والعرب الجاهليين المشركين، واختص هؤلاء بأخبار الجاهلية الأولى وأنسابها، وما فيها من قصص عن البيت وزمزم وجرهم، وما كان من أمرها، ثم ما كان من خبر الأسر التي تناوبت الزعامة والإمرة على قريش، وما جرى قبل
صفحة ١٣
ذلك لسد مأرب في اليمن، وما تبعه من تفرق الناس في البلاد.
التأريخ بعد الإسلام:
ثم ظهرت الرسالة المحمدية بصفتها أعظم حادث في حياة البشر عامة والعرب خاصة، فكان محور تأريخ البشر عامة والعرب خاصة، فما اجتمع ملأ منهم أو تفرق إلا وحديثهم عنه، ولا تحركت جيوشهم وكتائبهم إلا له أو عليه، حتى تتوجت جهوده بمعنى قوله سبحانه * (إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا) * فنبذوا ما كانوا فيه من الجاهلية الجهلاء والضلالة العمياء بهداية القرآن والإسلام.
ويومئذ وبظهور النبي (صلى الله عليه وآله) وظهور دعوته، ظهر مورد جديد للتأريخ، وهي أحاديث الصحابة والتابعين وأهل بيته (عليهم السلام) عن ولادته وحياته، وما قام به (صلى الله عليه وآله) من جهاد وجهود في سبيل الله، واصطدام في ذلك مع المشركين، ودعوة إلى التوحيد، وما كان فيها من أثر للسيف والسنان واللسان والبيان، وأصبحت هذه هي مواد التأريخ الجديد بصورة عامة وسيرة الرسول بصورة خاصة.
تدوين السيرة النبوية وتأريخ الإسلام:
ولم يدون في تأريخ الإسلام أو في سيرته (صلى الله عليه وآله) شئ، حتى مضت أيام الخلفاء، لم يدون في هذه المدة شئ سوى القرآن الكريم وتقويم إعرابه بمبادئ وقواعد النحو على يد أبي الأسود الدؤلي بإملاء أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (عليه السلام)، وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يحفز المسلمين على كتابة القرآن حرصا على حفظه وصيانته، كما إن تفشي العجمة على ألسنة أبناء
صفحة ١٤
العرب على أثر اختلاطهم بغيرهم عند اتساع الرقعة الإسلامية دفعت أبا الأسود الدؤلي إلى عرض ذلك على علي (عليه السلام) فكان ذلك حافزا على تدوين النحو.
وبهذا الاختلاط أيضا تفشت فيهم أخبار الماضين من ملوك الفرس وبني إسرائيل، فلما كانت أيام معاوية أحب أن يدون في التأريخ القديم كتاب فاستقدم عبيد بن شرية من صنعاء اليمن فكتب له كتاب أخبار الماضين من ملوك اليمن من العرب البائدة وغيرهم ومنهم الفرس والحبشة.
وقد كان المسلمون يحبون أن يخلدوا آثار ما يتعلق بسيرة الرسول (صلى الله عليه وآله)، وقد كان هذا يحقق ما في نفوسهم من تعلق به - عليه الصلاة والسلام -، ولكنهم - ببالغ الأسف - منعوا عن تدوين أحاديثه مخافة أن يختلط الحديث بالقرآن الكريم - كما زعموا -، بل منعوا حتى عن التحديث بحديثه، حاشا أمير المؤمنين عليا (عليه السلام)، فإنه لم يشارك في هذا المنع ولم يؤيده، بل كما أملى النحو على كاتبه أبي الأسود الدؤلي كتب هو أيضا بعض الكتب في الفقه والحديث، وأمر كاتبه الراتب عبيد الله بن أبي رافع أن يكتب المهم من أقضيته، وأحكامه في فنون الفقه من الوضوء والصلاة وسائر الأبواب (1).
وبهذا الموقف من أمير المؤمنين (عليه السلام)، وبفعل حاجة المسلمين إلى أحاديث نبيهم ظهر فيهم غير واحد من حملة الأحاديث العلماء الفقهاء، ولكن حيث استمر هذا المنع رسميا من قبل الخلفاء بعد علي وابنه الحسن (عليهما السلام) إلى أيام عمر بن عبد العزيز، قام رجال كلهم محدثون، لم
صفحة ١٥
يدونوا في الحديث والفقه شيئا، ولكنهم عوضوا عن كتابة أحاديثه بكتابة شئ من سيرته (صلى الله عليه وآله).
أصول السيرة النبوية وتطورها في القرنين الأول والثاني:
لا شك في الأهمية الكبرى التي كانت لأقوال النبي (صلى الله عليه وآله) وأعماله في حياته، وأكثر منها بعد وفاته.
ومن الطبيعي أن تورث هذه الأهمية عناية بتدوين تفاصيل حياته وجمع الأخبار والأحاديث عنه (صلى الله عليه وآله).
وطبيعي أيضا أن تكون القصص الشعبية عن سيرته موجودة في حياته معتنى بها - كحال الناس في العناية بقصص الأنبياء من قبل -.
وطبيعي أيضا أن يكون بعض الصحابة والتابعين قد تفوق على أقرانه في علمه بسيرته ومغازيه.
كتاب السيرة الأوائل:
إن أول من صنف في السيرة هو عروة بن الزبير بن العوام (ت 92 ه).
وذكر ابن سعد في كتابه " الطبقات " ما يفيد: أن أول من تخصص فيها هو أبان بن عثمان بن عفان (ت 105 ه)، روى بعضها عنه المغيرة بن عبد الرحمن.
ثم تنبه إلى جمع أخبارها والتحديث بها وهب بن منبه اليمني (ت 110 ه).
ثم عاصم بن عمر بن قتادة (ت 120 ه) الذي يروي عنه ابن
صفحة ١٦
إسحاق بعض أخبار سيرته كخبره عن دعاء النبي للاستسقاء في طريق تبوك، وكثرة النفاق.
ثم شرحبيل بن سعد الشامي (ت 123 ه).
ثم عبد الله بن أبي بكر بن حزم القاضي (ت 135 ه) الذي طلب منه عمر بن عبد العزيز أن يكتب إليه ما عنده من الأحاديث فنشرها بين الناس.
ثم موسى بن عقبة (ت 141 ه).
ثم معمر بن راشد (ت 150 ه).
ثم محمد بن إسحاق بن يسار المدني وقيل بشار - بن خيار من سبي عين تمر بالعراق (ت 153 ه).
ثم راويته زياد بن عبد الملك البكائي الكوفي العامري (ت 183 ه).
ثم محمد بن عمر بن واقد المعروف بالواقدي صاحب كتاب المغازي (ت 207 ه).
ثم راوية ابن زياد البكائي عن ابن إسحاق: عبد الملك بن هشام الحميري اليمني البصري (ت 218 ه).
ولم يصلنا من كتب هؤلاء شئ سوى سيرة ابن إسحاق برواية ابن هشام عن البكائي عن ابن إسحاق، ومغازي الواقدي، اللهم إلا روايات في طيات أمهات المصادر التأريخية فيما بعد.
المؤرخون الأوائل:
وإلى جانب هؤلاء ظهر من لم يقتصر على أخبار سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله)، بل جمع إليها أخبار الجاهلية قبل الإسلام، ثم أخبار الخلفاء
صفحة ١٧
بعده، أو جمع أخبار بعض الخلفاء، أو الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) فقط، فكانوا مؤرخين بالمعنى العام.
منهم: محمد بن السائب الكلبي الكوفي النسابة (ت 146 ه).
وأبو مخنف لوط بن يحيى الأزدي الكوفي (ت 157 ه).
وهشام بن محمد الكلبي الكوفي (ت 206 ه).
ونصر بن مزاحم المنقري الكوفي (ت 212 ه).
وعبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (ت 274 ه).
وأحمد بن يحيى بن جابر البلاذري (ت 279 ه).
وإبراهيم بن محمد الثقفي الكوفي الإصبهاني (ت 283 ه).
وأبو الفرج علي بن الحسين الأموي الإصبهاني (ت 284 ه).
وأحمد بن واضح بن يعقوب البغدادي (ت 292 ه).
ومحمد بن جرير الطبري (ت 310 ه).
وعلي بن الحسين المسعودي البغدادي (ت 346 ه).
ومحمد بن محمد بن النعمان التلعكبري المفيد (ت 413 ه).
الأثر الباقي في السيرة:
عرفنا أن الكتابة في سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) كانت قد حصلت في التابعين وتابعي التابعين، كما رأينا قائمة أسمائهم وتواريخ وفياتهم، ولكنها لم تكن كثيرة، بل هي مهما أطلنا الحديث عنها كانت قليلة جدا، لا تعدو أن تكون صحفا فيها بعض الأخبار عن سيرة المختار (صلى الله عليه وآله).
أما الكتاب الذي كتبت له الموفقية والنجاح وشهرة الاعتماد والوثوق فهو سيرة محمد بن إسحاق، التي ألفها في أوائل أيام العباسيين.
صفحة ١٨
يروون أنه دخل يوما على المنصور وبين يديه ابنه المهدي، فقال له المنصور: أتعرف هذا يا بن إسحاق؟ قال: نعم، هذا ابن أمير المؤمنين:
فقال: اذهب فصنف له كتابا منذ خلق الله آدم (عليه السلام) إلى يومك هذا. فذهب ابن إسحاق فصنف له الكتاب وأتاه به فلما رآه قال: لقد طولته يا بن إسحاق فاذهب فاختصره. فاختصره، والقي الكتاب الكبير في خزانة الخليفة.
وفي هذا المعنى روي عن ابن عدي الرجالي المعروف أنه كان يقول في ابن إسحاق: " لو لم يكن لابن إسحاق من الفضل إلا أنه صرف الملوك عن الاشتغال بكتب لا يحصل منها شئ للاشتغال بمغازي رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومبعثه ومبتدأ الخلق لكانت هذه فضيلة سبق بها ابن إسحاق، وقد فتشت أحاديثه الكثيرة فلم أجد ما تهيئ أن يقطع عليه بالضعف، وربما أخطأ واتهم في الشئ كما يخطئ غيره. ولم يتخلف في الرواية عنه الثقات والأئمة الاثبات، أخرج له مسلم في المبايعات، واستشهد به البخاري في مواضع، وروى له أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة ".
ثم أصبح ابن إسحاق في الحقيقة عمدة المؤلفين في السيرة، فما من كتاب في السيرة إلا وهو مستمد منه وراو عنه، اللهم إلا ما نأتي عليه من مغازي الواقدي ورواية كاتبه ابن سعد عنه، وما روي عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وكذلك أصبح كتاب ابن إسحاق عمدة الكتب في السيرة لقرائها منذ أن كتبه إلى يومنا هذا ولا سيما بعد تهذيبها من قبل ابن هشام - بحيث أنك لا تكاد تجد رجلا يدرس سيرة الرسول الكريم إلا وكتاب ابن إسحاق كتابه الأول والام في ذلك.
صفحة ١٩
عمل ابن هشام في سيرة ابن إسحاق:
وقد جاء بعده عبد الملك بن هشام الحميري البصري (ت 218 ه) بنصف قرن تقريبا، فروى سيرة ابن إسحاق برواية زياد بن عبد الملك البكائي العامري الكوفي (ت 183 ه) ولكنه لم يروها كما هي بل تناولها بكثير من التمرير والاختصار والإضافة والنقد أحيانا، والمعارضة بروايات اخر لغيره، عبر عن أعماله هذه بقوله في صدر سيرته: " وانا - إن شاء الله - مبتدئ هذا الكتاب بذكر إسماعيل بن إبراهيم، ومن ولد رسول الله من ولده، أولادهم لأصلابهم الأول فالأول من إسماعيل إلى رسول الله، وما يعرض من حديثهم - وتارك ذكر غيرهم من ولد إسماعيل للاختصار - إلى حديث سيرة رسول الله. وتارك بعض ما يذكره ابن إسحاق في هذا الكتاب مما ليس لرسول الله فيه ذكر ولا نزل فيه من القرآن شئ، وليس سببا لشئ من هذا الكتاب ولا تفسيرا له ولا شاهدا عليه، لما ذكرت من الاختصار، وأشعارا ذكرها لم أر أحدا من أهل العلم بالشعر يعرفها، وأشياء بعضها يشنع الحديث به (!) وبعض يسوء بعض الناس ذكره (!) وبعض لم يقر لنا البكائي بروايته (؟) ومستقص - إن شاء الله تعالى - ما سوى ذلك منه بمبلغ الرواية له والعلم به " (1).
إذن فقد أسقط ابن هشام من عمل ابن إسحاق: تأريخ الأنبياء من آدم إلى إبراهيم، ومن ولد إسماعيل من ليس في عمود النسب النبوي الشريف، كما حذف من الأخبار ما يسوء بعض الناس! ومن الشعر ما لم
صفحة ٢٠
يثبت لديه. ولكنه زاد فيه مما ثبتت لديه من رواية، ولذلك نسبت السيرة إليه وعرفت به، حتى لا يكاد يذكر ابن إسحاق معه، فقد عرفت سيرة ابن إسحاق بين العلماء منذ عهد بعيد باسم سيرة ابن هشام، لما له فيها من رواية وتهذيب.
وبهذا الصدد قال ابن خلكان في ترجمة ابن هشام: " وابن هشام هذا هو الذي جمع سيرة رسول الله من المغازي والسير لابن إسحاق وهذبها ولخصها، وهي السيرة الموجودة بأيدي الناس المعروفة بسيرة ابن هشام ".
ولم تنقطع العناية بالتأليف في السيرة إلى يومنا هذا، إلا أن الموضوع في ذاته ليس أمرا يقوم على التجارب، أو فكرة يقيمها برهان وينقضها برهان، شأن النظريات العلمية التي نرى تجديدها وتغييرها على مر السنين، وإنما هو من العلوم النقلية لا العقلية، فكان المشتغلون به أولا محدثين ناقلين، ثم جاء من بعدهم جامعين مبوبين ثم ناقدين معلقين. ولم يكن قابلا للتجديد في جوهره، إلا بمقدار قليل حسب النقد الدقيق، وإنما كان التجديد في أشكاله وصوره شرحا أو اختصارا، أو شيئا من النقد قليلا مشيرا إلى ما فيه من أخطاء.
ولعل الذين تناولوا السيرة بالتلخيص والاختصار، إنما خففوا من ثقل الكتاب بعض أخباره التي استبعدوها غير مؤمنين بصحتها، ناقلين من الأخبار ما يرون فيها القرب من الحق، ومستبعدين ما لا يجري في ذلك مع فكرتهم وعقيدتهم مفندين إياه رادين له.
ولعل من علل انتشار أخبار ابن إسحاق ثم كتابه في السيرة كثرة رحلاته، فالراجح في تأريخ مولده في المدينة أنه كان سنة 85 ه ولا يرتاب الرجاليون وأصحاب الطبقات في أنه أمضى شبابه في المدينة فتى جميلا
صفحة ٢١
" فارسي الخلقة " جذاب الوجه له شعرة حسنة ولذلك حكى ابن النديم بشأنه في فهرسته: أنه اتهم بأنه يجلس في مؤخر المسجد للصلاة فيغازل بعض النساء، فأمر أمير المدينة بإحضاره وضربه أسواطا ونهاه عن الجلوس في مؤخر المسجد. ولعله لهذا لم يرو عنه من أهل المدينة غير راو واحد هو إبراهيم بن سعد فحسب (1).
ولعله لهذا رحل منها سنة 115 ه أي في الثلاثين من عمره إلى الإسكندرية في مصر، ويظن أنها أولى رحلاته، فانفرد برواية أحاديث عن عدة من رجال الحديث بها.
ثم رحل إلى الكوفة والحيرة، ولعله بها التقى بالمنصور فصنف لابنه المهدي كتاب السيرة كما سبق، فرواها عنه زياد بن عبد الملك البكائي العامري وغيره، ورحل إلى الجزيرة أي الموصل، والري حتى إذا بنيت بغداد فرجع إليها وفيها ألقى عصا الترحال، وله من كل هذه البلدان رواة كثيرون.
وعاش في بغداد حتى توفي بها فدفن في مقابر الخيزران.
وقد كان ابن إسحاق يعد في طبقة تلامذة عبد الملك بن شهاب الزهري وأقرانه، وله عنه روايات، ونقل أصحاب الطبقات أن شيخه ابن شهاب الزهري لم يكن يتهمه بشئ بل كان يوثقه، وتبعه في توثيق ابن إسحاق من الفقهاء الأئمة: سفيان الثوري وشعبة، بالإضافة إلى راويته زياد ابن عبد الملك البكائي عنه. وإن كان هشام بن عروة بن الزبير من رواة السيرة، ومالك بن أنس من أئمة الفقهاء يتحاملان عليه بالجرح والتضعيف ويتهمانه بالكذب والدجل والتدليس، والقول بالقدر، والنقل عن غير
صفحة ٢٢
الثقات، وأخطاء في الأنساب. ولكن لعله لأن ابن إسحاق كان يطعن في نسب مالك وعلمه ويقول: إيتوني ببعض كتبه حتى أبين لكم عيوبه، فأنا بيطار كتبه (1)! إذن فالحملة متقابلة من الطرفين، والتضعيف ضعيف لأنه معلوم الوجه والعلة " الشخصية ".
مغازي الواقدي:
أما الواقدي محمد بن عمر بن واقد مولى بني سهم، فقد ذكر تلميذه ابن سعد في " الطبقات الكبرى " أنه ولد في المدينة سنة 130 ه أي بعد خروج ابن إسحاق منها بخمسة عشر عاما، ولذلك لم يرو عنه وإن كان قد روى عن سائر رواة الأخبار عن الزهري، مع تشابه كبير بين فقرات كتاب السيرة لابن إسحاق وكتاب المغازي للواقدي، ولذلك زعم مستشرقان هما (فلهوزن وهورفتس) أنه سرق منه ولم يسنده إليه، وفند زعمهما مستشرق آخر هو (مارسدن جونس) محقق المغازي كما في مقدمته للكتاب (2) ثم احتمل أن يكون الواقدي قد أعرض عن الرواية عن ابن إسحاق نظرا إلى عدم توثيق علماء المدينة له.
ثم قال: يبدو واضحا للقارئ الحديث أن من أهم السمات التي تجعل الواقدي في منزلة خاصة بين أصحاب السير والمغازي تطبيقه المنهج التأريخي العلمي الفني، فإنا نلاحظ عند الواقدي - أكثر مما نلاحظ عند غيره من المؤرخين المتقدمين - أنه كان يرتب التفاصيل المختلفة للحوادث بطريقة
صفحة ٢٣
منطقية لا تتغير، فهو مثلا يبدأ مغازيه بذكر قائمة طويلة من الرجال الذين نقل عنهم تلك الأخبار ثم يذكر المغازي واحدة واحدة مع تأريخ محدد للغزوة بدقة، وغالبا ما يذكر تفاصيل جغرافية عن موقع الغزوة، ثم يذكر المغازي التي غزاها النبي بنفسه، وأسماء الذين استخلفهم على المدينة أثناء غزواته، وأخيرا يذكر شعار المسلمين في القتال، كل ذلك بالإضافة إلى وصفه لكل غزوة بأسلوب موحد: فيذكر أولا اسم الغزوة وتأريخها وأميرها.
وكثيرا ما يقدم لنا الواقدي قصة الواقعة بإسناد جامع، أي يجمع الرجال والأسانيد في متن واحد. وإذا كانت الغزوة قد نزل فيها آيات كثيرة من القرآن الكريم، فإن الواقدي يفردها وحدها مع تفسيرها ويضعها في نهاية أخبار الغزوة، وفي المغازي المهمة يذكر الواقدي أسماء الذين استشهدوا فيها.
وإن ما أورده في الكتاب من التفاصيل الجغرافية ليوحي بجهده ومعرفته للدقائق في الأخبار التي جمعها في رحلته إلى شرق الأرض وغربها طلبا للعلم (1). وقد روى الخطيب البغدادي وابن سيد الناس (2) عن الواقدي أنه قال: ما أدركت رجلا من أبناء الصحابة وأبناء الشهداء ولا مولى لهم إلا سألته: هل سمعت أحدا من أهلك يخبرك عن مشهده وأين قتل؟ فإذا أعلمني مضيت إلى الموضع فأعاينه، وما علمت غزاة إلا مضيت إلى الموضع فأعاينه، حتى لقد مضيت إلى " المريسيع " فنظرت إليها.
صفحة ٢٤