موسوعة مصر القديمة (الجزء الأول): في عصرما قبل التاريخ إلى نهاية العصرالإهناسي
تصانيف
الإهداء
مقدمة
قائمة بأهم التواريخ
1 - مقدمة عن تاريخ مصر وما قبل التاريخ
2 - حل رموز اللغة المصرية القديمة
3 - مصر وأصل المصريين
4 - نحو توحيد البلاد
5 - تنظيم نتيجة السنة الشمسية
6 - مينا وتوحيد البلاد
7 - مصادر التاريخ المصري القديم
صفحة غير معروفة
8 - الألقاب الرسمية للفرعون
9 - مقاطعات القطر المصري منذ أقدم العهود
10 - آلهة المقاطعات
11 - نظرة إجمالية في أصول الديانة المصرية
12 - مصادر المقاطعات في العهد الفرعوني وما بعده
13 - الدول القديمة
14 - الأسرة الثالثة
15 - الأسرة الرابعة
16 - الأسرة الخامسة
17 - الأسرة السادسة
صفحة غير معروفة
18 - سقوط الدولة القديمة والثورة الاجتماعية
19 - الأسرتان السابعة والثامنة
20 - الأسرتان التاسعة والعاشرة
21 - مراجع التاريخ المصري في عهد الدولة القديمة
الإهداء
مقدمة
قائمة بأهم التواريخ
1 - مقدمة عن تاريخ مصر وما قبل التاريخ
2 - حل رموز اللغة المصرية القديمة
3 - مصر وأصل المصريين
صفحة غير معروفة
4 - نحو توحيد البلاد
5 - تنظيم نتيجة السنة الشمسية
6 - مينا وتوحيد البلاد
7 - مصادر التاريخ المصري القديم
8 - الألقاب الرسمية للفرعون
9 - مقاطعات القطر المصري منذ أقدم العهود
10 - آلهة المقاطعات
11 - نظرة إجمالية في أصول الديانة المصرية
12 - مصادر المقاطعات في العهد الفرعوني وما بعده
13 - الدول القديمة
صفحة غير معروفة
14 - الأسرة الثالثة
15 - الأسرة الرابعة
16 - الأسرة الخامسة
17 - الأسرة السادسة
18 - سقوط الدولة القديمة والثورة الاجتماعية
19 - الأسرتان السابعة والثامنة
20 - الأسرتان التاسعة والعاشرة
21 - مراجع التاريخ المصري في عهد الدولة القديمة
موسوعة مصر القديمة (الجزء الأول)
موسوعة مصر القديمة (الجزء الأول)
صفحة غير معروفة
في عصر ما قبل التاريخ إلى نهاية العصر الإهناسي
تأليف
سليم حسن
الإهداء
إلى روح صديقي العزيز أحمد عبد الوهاب باشا.
طيب الله ثراه وأسكنه فسيح جناته.
إلى الذين أرادوا الإساءة إلي فأحسنوا، وباعدوا بيني وبين الوظيفة فقربوا بيني وبين الإنتاج وخدمة العلم والوطن.
إلى الذين شجعوا الدراسات المصرية.
إلى كل أولئك أهدى هذه الموسوعة في تاريخ الدولة
مقدمة
صفحة غير معروفة
بسم الله الرحمن الرحيم
أحمد الله وأشكره، وأسأله السداد والتوفيق، والهداية إلى أقوم طريق. وبعد، فهذه محاولة جريئة أردت بها أن أجمع في مؤلف واحد تاريخ شعب عريق قديم، له عقيدته وفلسفته في الحياة، وله ثقافته ونظامه وطرائق معيشته، ولم أتخذ من تاريخ الفرعون نموذجا لتاريخ شعبه - كما جرت العادة بذلك في الكتب - ولم أجعل حياته وعاداته ونظمه وثروته ومعتقداته مقياسا للحكم على أحوال رعيته، فقد يكون الفرق بينهما كبيرا، والهوة سحيقة، بل جعلت حال الشعب أساسا لما كتبت، وفي ذلك ما يقربنا من الحقيقة، ويجنبنا مزالق الخطأ والضلال.
وإذا لازمنا التوفيق، وأمكننا أن نبني تاريخا من المادة التي وجدناها مبعثرة في مقابر الدولة القديمة ومعابدها، كان ذلك - من غير شك - أساسا متينا، ودعامة قوية لدرس كل مدنيات العالم؛ إذ إن مصر هي المنبع الأول الذي ظهرت لنا منه كتابات مدونة، في الوقت الذي كانت فيه كل ممالك العالم تقريبا تهيم على وجوهها في الغابات، وتتيه في المجاهل والأحراج، ومن هذه المدنية المصرية اغترف العبرانيون والإغريق والآسيويون، ومن ثم تسربت إلى أوروبا.
وإنك لتجد فارقا واضحا يفصل بين المدنية المصرية القديمة وبين ما عداها من مدنية الإغريق وغيرهم، ذلك أن المصري كان يفكر دائما في دائرة الحس، ولا يسمح لعقله بأن يحلق في أجواء المعقولات والمعاني، فهو لا يؤمن بالحب وإن كان يقدس المحبوب، ولا يعرف الشجاعة ولكنه يقدر الرجل الشجاع، وتبعا لطريقته هذه في التفكير كان لا بد له من أن يجسم آلهته ويصورها، ويتخذ لها من الحيوان والكائنات مظاهر يقدسها ويعبدها مع اعتقاده بالوحدانية، ويظهر أن شمس مصر الحارة التي كانت تلهب جسم المصري، وتشعره دائما بوجودها، هي التي أرهفت عنده قوة الحس، كما أن انتقابها واحتجابها في أوروبا مال بالأوروبيين عن محيط المحسوسات إلى المعقولات.
ولقد اقتصرنا في تاريخنا على الدولة القديمة وبداية العهد الإقطاعي لاتساع الموضوع وتشعب نواحيه وضرورة الإلمام بجميع أطرافه، ولم نستطع أن نجزم في كثير من الأمور برأي قاطع؛ لأن هناك تراثا تحت الأرض لما يكشف عنه الزمن، ولم يسمح لنا القدر بالتعرف عليه، وإذاعة ما طواه من خبر يقين وسر دفين، ومن التجديف والجرأة أن نقدمه للقراء حقيقة ثابتة، لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
وهناك موضوعات جديدة حاولت سبكها على غير مثال سابق، بل لم يطرق الكثير منها من قبل لقلة المصادر وغموضها، فأطلقنا للخيال بعض الحرية، لينسج من العناصر التاريخية القليلة التي وجدناها عن هذه الموضوعات ثوبا قشيبا تظهر به بين أترابها من الموضوعات التاريخية الأخرى، ونقصد بذلك أن نكسو عظام الحقائق التاريخية الجافة لحما، ثم نبعث فيها روحا يحركها، فتصبح حية يراها القارئون ويتمثلونها.
وإن من يعرف اللغة المصرية القديمة، وصعوبة فهمها، واحتمال اللفظ كثيرا من المعاني يلتمس العذر لعلماء الآثار في اختلافهم وتعدد آرائهم وتباين مذاهبهم في موضوعات كثيرة، على أنا أوردنا أقوم هذه الآراء وأقربها إلى المنطق والعقل وأقواها حجة ودليلا.
ولقد آثرت الأسلوب السهل في إبراز موضوعات هذا الكتاب، لوعورة موضوعاته ولتنساب المعاني إلى ذهن القارئ في غير إجهاد فكر أو إعمال عقل، ومن الأسف أن قليلا من الكلمات الأعجمية أو العربية المحرفة قد أضطرني إلى الاعتراف به واستعماله، حينما وجدت رديفه العربي غريبا أو قليل الاستعمال.
ولقد كانت رغبتنا في أن يبدو كل موضوع من موضوعات الكتاب وحدة متماسكة مكتملة الأجزاء، ظاهرة الاستقلال بجميع عناصرها، سببا في أن نتعرض إلى بعض الحقائق التاريخية أكثر من مرة ملمحين إليها، أو مارين بها، أو مسهبين في ذكرها حسبما يقتضيه المقام.
ومن الواجب علي هنا أن أعترف بالمساعدة العظيمة التي قدمها لي كل من الأستاذ محمد النجار مدرس اللغة العربية بمدرسة شبرا الابتدائية والأستاذ عبد السلام عبد السلام، فقد عني الأول بقراءة النسخة الخطية ومراجعتها من الوجهة النحوية بقدر ما سمحت به الظروف، أما الثاني فقد تعهد قراءة تجارب الكتاب كله ووضع الفهرس له، وساهم في إنجاز طبعه بسرعة. هذا وإني لأشكر صاحبي مطبعة كوثر على عنايتهما بطبع الكتاب طبعا جميلا في تلك الظروف الدقيقة.
صفحة غير معروفة
وقد جعلت الكتاب قسمين: يتحدث الأول عن عهد ما قبل التاريخ إلى نهاية الأسرة العاشرة، ويتكلم الثاني عن مدنية الدولة القديمة حتى العصر الإهناسي.
فإن كنت قد قاربت السداد وسلكت طريق الرشاد، فهذا ما أرجوه وأحمد الله عليه، وإن كان قد نبا بي الفكر أو شط القلم فالخير أردت، وما توفيقي إلا بالله.
سليم حسن
القاهرة في أول أغسطس سنة 1940
قائمة بأهم التواريخ
من الدولة القديمة إلى الأسرة العاشرة (حسب تاريخ الأستاذ برستد)
(1)
بداية استعمال النتيجة سنة 4241ق.م. (2)
الأسرتان الأولى والثانية من 3400-2980ق.م. (3)
الأسرة الثالثة 2980-2900ق.م. (4)
صفحة غير معروفة
الأسرة الرابعة 2900-2750ق.م. (5)
الأسرة الخامسة 2750-2625ق.م. (6)
الأسرة السادسة 2625-2475ق.م. (7)
الأسرتان السابعة والثامنة 2475-2445ق.م. (8)
الأسرتان التاسعة والعاشرة 2445-2160ق.م.
هذه التواريخ تقريبية محضة قد تزيد أو تقل عن مائة سنة.
الفصل الأول
مقدمة عن تاريخ مصر وما قبل التاريخ
ظلت معلومات العالم أجمع عن تاريخ مصر القديم ضئيلة هزيلة حتى منتصف القرن التاسع عشر، وذلك يرجع إلى عدم معرفة قراءة نقوشها. حقا إن عددا لا بأس به من قدماء كتاب الإغريق والرومان الذين وفدوا على أرض مصر طلبا للوقوف على غرائبها وعجائبها، قد وصفوا البلاد وصفا مسهبا، وكتبوا بقدر ما وصلت إليه معلوماتهم عن تاريخها المجيد، ولكن لسوء الحظ كان كل ما وصل إلينا من كتاباتهم قد أخذوه إما عن طريق الرواية أو مجرد وصف جغرافي، وقد بقيت هذه الروايات مصدرنا الوحيد عن تاريخ مصر القديمة حتى باكورة القرن التاسع عشر، وأهم هؤلاء الكتاب المؤرخ «هيرودوت» و«ديدور الصقلي» و«استرابون» وغيرهم، ممن قاموا بسياحات في مصر في عهد ملوك البطالسة والعهد الروماني، وهكذا بقي تاريخ البلاد الحقيقي قبل عصر البطالسة سرا غامضا، لا نعرف شيئا عنه إلا ما وصل إلينا عن طريق المؤرخ المصري «مانيتون» الذي كتب تاريخ البلاد في عهد البطالسة نقلا عن أصول مصرية قديمة كما يظهر، ولكن للأسف لم يصل إلينا منه إلا مختصر لا يشفي الغلة.
على أن كثيرا مما ذكره في كتابه لم تحققه المصادر الأصلية التي عثر عليها للآن بعد كشف أسرار اللغة المصرية، وقد بقي العالم يرتكز في معلوماته عن تاريخ مصر على ما تركه لنا كتاب اليونان، ومختصر مانيتون، ولم تكن لدينا طريقة إلى تصحيح أغلاطهم، وسد الفجوات التي كانت تعترض الباحث في تاريخ البلاد، ومن أجل ذلك قام بعض العلماء بمحاولات لحل رموز اللغة المصرية حتى يصلوا إلى معرفة تاريخ البلاد الحقيقي، مثل الأب «كرشر» إلا أن ذلك لم يسفر عن نتيجة مرضية، ولكن منذ أن رست الحملة الفرنسية على شاطئ النيل بدأت صفحة جديدة في تاريخ البلاد؛ إذ في الوقت الذي كانت فيه الجنود الفرنسية تحارب المماليك، كانت هناك حملة أخرى فرنسية علمية يجول أعضاؤها في طول البلاد وعرضها، لدرسها درسا علميا منظما من كل الوجوه، فبحثوا جغرافية البلاد وحيوانها ونباتها وزراعاتها المختلفة وحرفها، ثم درسوا أخلاق القوم وعاداتهم وآثارهم، ونقلوا النقوش القديمة التي كانت وقتئذ ظاهرة على معابد البلاد، وبعد ذلك قاموا بتدوين كل بحوثهم بدقة وعناية في مؤلف خاص، يشمل عدة مجلدات أطلق عليه
صفحة غير معروفة
Description de l’Egypte ، ولكن بكل أسف لم يستفد التاريخ من كل هذه البحوث إلا أشياء ضئيلة؛ وذلك لأن النقوش التي نقلوها من المعابد وغيرها، بقيت صامتة إلى أن جاء «شمبليون» وحل رموزها - كما سنذكره بعد - ومنذ حل رموز اللغة المصرية أخذ تاريخ البلاد الحقيقي ينجلي شيئا فشيئا، مما قضى على الأساطير والخرافات التي نقلها كتاب اليونان الذين رادوا وادي النيل وكتبوا عنه، وقد بقيت هذه الأساطير تعتبر في أعين العالم إلى هذا الوقت أنها تاريخ البلاد الذي يعتمد عليه، وفي الفترة التي كان في خلالها علماء الآثار المصرية يسيرون بخطى وئيدة ثابتة في كشف النقاب عن تاريخ البلاد الحقيقي، بفضل المجهودات الجبارة التي كانت تبذل في عمل الحفائر، وحل رموز النقوش التي كانت على جدران المعابد وفي أوراق البردي في وادي النيل، كانت هناك جهود أخرى عظيمة يبذلها جماعة من علماء أوروبا في وضع أساس لعلم آخر جديد في الجهة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط، وهذا العلم الجديد هو علم ما قبل التاريخ، وقد كان في بدايته غير مدعوم الأساس إذا قرناه بعلم الآثار المصرية، وكانت ماهيته تنحصر في بحث حل مسألة أصل الإنسان قبل التاريخ، أو بعبارة أخرى قبل ظهور الكتابة، وذلك بدرس بقايا العظام الإنسانية وغيرها، مما خلفه أصحابها من الآثار والصناعات التي تركت بعدهم على سطح الأرض مهملة ، أو وجدت مدفونة في المغارات والكهوف، أو في مجاري الأنهار القديمة، وقد أسفرت النتيجة أخيرا عن نجاح بعض العلماء بعد معارضات شديدة في وضع أسس لهذا العلم، والواقع أنه بعد مجهود نصف قرن تمكن العالمان «بوشيه» و«بيرن» من وضع مؤلف يبحث في عصر ما قبل التاريخ، وقد جاء بعدهما طائفة من العلماء، توصلوا إلى تثبيت أصول هذا العلم ببحوثهم حتى أصبح معترفا به في كل الأوساط العلمية في أوروبا.
ومن المدهش أن بعض الكتاب الأقدمين قد تكلموا عن هذا العلم قبل معرفته ووضع أصوله، فقد أشار الشاعر اللاتيني لوكريه
Lucerêe
إلى ذلك بقوله: «إن الإنسان الأول كان يجهل استعمال المعادن، ولذلك كان يتخذ الأخشاب والعظام وخاصة الأحجار المهذبة بحذق ومهارة آلات وأسلحة للصيد والحرب، وبعد ذلك بزمن أصبح الإنسان زارعا، ثم أخذ في تحسين آلاته وصقل حد «بلطته».»
والواقع أن ذلك يتفق مع الحقائق التاريخية؛ إذ وجدنا أن العصر الحجري قد استعمل فيه الظران المهذب ثم المصقول، ثم خلف ذلك عصر يشعر بالرقي والتدرج، وهو عصر استعمال معادن. ويلاحظ أنه بظهور المعادن بدأ استعمال الظران يقل شيئا فشيئا، ولا غرابة أن استعمال النحاس، ثم اختراع البرنز الذي حل محله الحديد فترة قصيرة، وكان من الأمور التي خطت بالإنسان خطوات جديدة نحو الرقي حتى العصر التاريخي - أي عصر استعمال الكتابة والقراءة - في تدوين كل حوادثه وأعماله، على أن أمم العالم لم تتساو كلها في الوصول إلى هذه الدرجة بسرعة واحدة أو في وقت واحد، فمثلا البلاد المصرية والأقطار الكلدية تعرفان الكتابة والقراءة منذ آلاف السنين قبل التاريخ الميلادي في الوقت الذي بقيت فيه زمنا طويلا تجهل وجود الجديد، ومن جهة أخرى نشاهد أن سكان ممالك البحر الأبيض المتوسط قد مكثوا عدة قرون مدفونين في ظلمات عصر ما قبل التاريخ، ومع هذا فإنهم كانوا يعرفون استعمال الحديد منذ أزمان طويلة قبل الفتح الروماني.
ومن الطريف المدهش أن أبحاث علماء ما قبل التاريخ قد ظلت غير معترف بها عند علماء الآثار المصرية معظم القرن التاسع عشر، وسبب ذلك أن هؤلاء الأثريين كانوا يشكون في وجود عصر في تاريخ مصر قبل عهد الدولة القديمة؛ وذلك لأنهم كانوا يعتقدون أن سكان مصر لم يكن لهم عهد طفولة كباقي الأمم، بل إنهم وجدوا في التاريخ فجأة، وأن مدنيتهم كانت شبه كاملة، ولذلك رفض علماء الآثار أن يبحثوا عن منشأ هذه الثقافة الزاهرة، التي كان لا بد لها أن تصل إلى ما وصلت إليه تدريجا بعد انقضاء عدة قرون، ولهذا السبب أبوا أن يفحصوا الآلات المصنوعة من الحجر، وهي التي وجدوها عفوا أثناء القيام بأعمال الحفر، أو التي جمعت من فوق سطح الأرض، وقد فسروا وجودها بأنها من عمل الطبيعة، أو أنها صنعت في عهد الأسرة الفرعونية.
وهكذا بقي النضال بين علماء الآثار قائما إلى أن وفد على وادي النيل العالم الفرنسي أرسلان
Arcelin ، فكان أول من أثبت وجود علم ما قبل التاريخ في مصر، وقد دعم قوله بالبراهين.
حضر هذا العالم إلى مصر في عام 1868، وساح في النيل ذهابا وإيابا، وقام أثناء رحلته بأبحاث منتجة، فجمع من حافة الصحراء التي أقيم عليها الأهرام بعض آلات من الظران المهذب التي تشبه ما عثر عليه في أوروبا، وقد أسعده الحظ بأكثر من ذلك؛ إذ عثر في الهضبة التي تشرف على وادي الملوك تجاه الأقصر على مصنع عظيم من الظران، يرجع عهده إلى العصر الحجري القديم «الباليوليتي»، وقد ظهر أن ما وجد في هذه البقعة يشبه كثيرا ما عثر عليه في سان آشل
Saint Acheul ، وفي الجنوب من البقعة السالفة الذكر، وفي أبي منقار عثر على بعض آلات من العصر الحجري الحديث.
صفحة غير معروفة
وبعد انقضاء فترة وجيزة على هذا الكشف، عثر العالمان «لنرمان» و«هنري»
Lanormont & henry
على بعض آلات لها أهمية عظيمة بالقرب من جبانة طيبة، وقد كان نتيجة هذا الكشف أن اعترفت جمعية درس أصل الإنسان في عام 1870 بإمكان وجود عصر ما قبل التاريخ في مصر، وقد جاء مؤيدا لهذا الرأي ما عثر عليه الأب «رتشرد» في شبه جزيرة سينا، وفي جوار القاهرة وفي طيبة - غير أنه بالرغم من ذلك - كان علماء الآثار يعارضون في وجود علم ما قبل التاريخ في مصر، بحجة أنهم وجدوا مثل هذه الآلات التي عثر عليها هؤلاء الباحثون في المقابر المصرية القديمة، ولم يفهموا أن هذه الآلات ربما كانت من مخلفات أزمان ما قبل التاريخ، وأنها بقيت مستعملة بالتوارث والعادة حتى العهود التاريخية، وقد بقي علماء الآثار أمثال «مريت باشا» و«لبسيوس» و«شاباس» على رأيهم رغم محاولات علماء ما قبل التاريخ في إقناعهم بصحة وجود عصر في تاريخ مصر قبل الدولة القديمة، وقد استمر هذا أكثر من ثلاثين عاما إلى أن وضع الأمور في نصابها عالم من علماء الآثار أنفسهم، وهو «جاك دمرجان» الذي كان مديرا للآثار المصرية في ذلك العهد، فجمع في مجلدين ضخمين كل ما كتب في هذا الموضوع، وانتهى به البحث إلى أن أيد فكرة وجود عصر ما قبل التاريخ في مصر، وأضاف إلى ذلك ملاحظاته الشخصية، التي جمعها مدة إقامته الطويلة في وادي النيل. إذ في خلال تلك المدة درس الأحوال والأماكن التي وجدت فيها الآلات الحجرية، وأثبت بالبراهين الناطقة قدم الآلات التي يرجع عهدها إلى ما قبل التاريخ عن الآلات، التي بقي الإنسان يهذبها بطريق العادة على نمط سالفتها في العصور التاريخية ثم يستعملها، وبعد أن وصل إلى هذه النتيجة أخذ يبرهن للعلماء على أن آلات ما قبل التاريخ المصري تكاد تكون مماثلة لما هو محفوظ في متاحف أوروبا من نفس العصر.
وبعد ذلك أثبت بصفة نهائية أن عصر الحجر المهذب في مصر قد سبق عصر الحجر المصقول، وأن الأخير قد خلفه عصر استعمال المعادن، كما هو الحال في إنجلترا وفرنسا وغيرهما.
وفي عام 1897 وضع العالم «دي مرجان» نتائج أبحاثه أمام العالم، ومنذ ذلك العهد اعترف فعلا بوجود عصر ما قبل التاريخ في مصر، ومن ثم أخذت البحوث تترى معززة رأي هذا العالم العظيم أو مكملة لبحوثه، وفي بعض الأحيان كانت مصححة لبعض أخطائه في نقط مختلفة، وقد مهدت لنا أبحاث الأستاذ «فلندرز بتري»، «ودي مرجان» السبيل لإيجاد صلة بين عصر ما قبل التاريخ المصري وعصر الدولة القديمة، وقد أطلق على هذه الفترة عصر ما قبل الأسرات.
وعثر الأثري «لجران» بعد ذلك على محطات جديدة، وعثر كذلك العالمان «ستون» و«كار» وغيرهما في منطقة الصحراء على حافة النيل على مواقع من هذا العصر.
وقد أشار الأستاذ «شفينفورت» العالم الألماني إلى وجود عدة محطات فيها آلات يرجع عهدها إلى عصر ما قبل التاريخ. (1) مصر والنيل
مما لا جدال فيه أن البلاد المصرية كانت تختلف اختلافا بينا عما هي عليه الآن، عندما بدأ يظهر فيها الإنسان الأول، ولأجل أن نكون فكرة عن حالة البلاد الطبيعية في هذا العهد، يجب علينا أن نرجع إلى الوراء إلى عهود جيولوجية سحيقة في القدم؛ أي قبل أن يظهر أثر الإنسان بمدة قصيرة نسبيا، وهذا العصر يعرف في التاريخ الجيولوجي للقشرة الأرضية بالزمن الجيولوجي الثالث، على أننا لن نبحث هنا عن المراحل الجيولوجية التي سبقت هذا العهد، ونعني بذلك المرحلتين الأوليين، وكذلك لن نتكلم عن النيل الأولى «القديم» الذي سبق النيل الحالي، بل سنكتفي هنا بأن نذكر بعض تفاصيل، لا بد منها للباحث في تاريخ مصر وطبيعة بلادها.
تتكون القشرة الأرضية في البلاد المصرية من ثلاث طبقات متتابعة بعضها فوق بعض:
أولا:
صفحة غير معروفة
نجد في الزمن الجيولوجي الأول أن التربة كانت تتألف من صخور شيستية متبلورة منها حجر «البرفير» والجرانيت ثم الديوريت.
ثانيا:
في الزمن الجيولوجي الثاني نجد أن التربة كانت تتكون من صخور رملية.
ثالثا:
ظهرت في بداية الزمن الثالث طبقات جيرية تحتوى على فواقع نومولتية.
والواقع أن الصخور الشيستية المتبلورة السالفة الذكر ينحصر وجودها في الصحراء الغربية وحول الشلال الأول، أما الصخور الرملية فإنها توجد في بلاد النوبة وفي الوجه القبلي حتى إسنا، وكذلك توجد في الأقصر وبالقرب من القاهرة وفي الواحة الخارجة.
أما الطبقات الجيرية فقد تكونت منها الصحراء اللوبية، وكذلك المرتفعات التي تحف نهر النيل من بداية مدينة الأقصر إلى القاهرة.
ولا جدال في أن الكتل الكثيفة الصخرية من الحجر النوبي الرملي التي تتألف منها تربة أرض مصر، قد مرت عليها تقلبات جيولوجية كثيرة؛ إذ كانت في الواقع تغطى جزئيا بالماء أحيانا ثم تظهر ثانيا، مما سهل للبحر الجيري ثم البحر النيوموليتي أن يتركا رواسبهما على السطح، ويكونا طبقات جيرية كثيفة من الجير، وهي التي تغطي في كل مكان طبقات الحجر النوبي الرملي من إدفو إلى بداية الدلتا، وبعد ظهور هذا الإقليم من الماء نهائيا - وقد حدث ذلك بعد العهد الأيوسيني - نجد أن الإقليم الشاسع الذي أطلق عليه فيما بعد مصر قد ظهر، غير أنه شوهد في سطحه ميل مزدوج، خفيف من ناحية، ومنحدر من الناحية الأخرى، ويتجه الميل الأول من الجنوب إلى الشمال حسب اتجاه النيل، أما الميل الثاني فإنه أشد انحدارا، ويبتدئ من الشرق إلى الغرب أي من شواطئ البحر الأحمر إلى إقليم الواحات. وهذان الميلان في طبيعة أرض الوادي يرجع سببهما بلا نزاع إلى الظواهر البركانية التي حدثت في الجهة الشرقية منه وفي إقليم السودان، ولا شك أن نتائج هذه الظواهر عظيمة جدا من الجهة الجغرافية، لأنها كبقية التغيرات التي كان لا بد لسطح الوادي أن يخضع لها بفعل تأثير مياه النهر.
والواقع أن نهر النيل قد شق مجراه في هذه الهضبة غير المتكافئة في ارتفاع جبالها، بخط يكاد يكون مستقيما، وكون منها منطقتين منفصلتين تختلفان اختلافا بينا من حيث الارتفاع والشكل. إحداهما شرقية، وهي التي تسمى صحراء العرب، ويمتاز تكوينها الطبيعي بأن جبالها تصل إلى ارتفاع عظيم بالقرب من الشاطئ ثم تنحدر تدريجيا نحو الوادي. أما المنطقة الثانية فيطلق عليها اسم صحراء ليبيا، وتبتدئ بتلال قليلة الارتفاع تسير مع السهل الرملي وتنتهي بعدة منخفضات، يصل مستوى بعضها أحيانا إلى أقل من مستوى البحر، ويطلق على هذه المنخفضات اسم الواحات.
وعلى هذا النحو تكون هيكل بلاد الفراعنة في الزمن الجيولوجي الثالث، وفي نهاية هذا الزمن وبداية الزمن الجيولوجي الرابع أخذت العوامل الجوية تؤثر بفعلها حتى نحتت في سطح هذه الهضبة وادي النيل الحالي . إذ كانت تتساقط في هذه الجهة سيول جارفة يمكن أن نعرف مقدار عظمها وشدتها من الأمطار الاستوائية الحالية، وقد كونت هذه الأمطار عدة مجار من الماء، قامت مقام العمال في نحت وديان عدة في الصخور، وهذه الوديان قد جف ماؤها منذ أزمان سحيقة، غير أن أماكنها لا تزال باقية إلى الآن دالة على وجودها رغم نضوب الماء منها.
صفحة غير معروفة
والظاهر أن النيل لم يستتب في مجراه الحالي إلا منذ أزمان حديثة، ولا ريب أن سيره كان قد عوق في الأزمان الغابرة عند مرتفعات أسوان بحاجز من الجرانيت، ومكث مدة طويلة لم يتمكن من تذليل هذه العقاب الجرانيتية، فكانت مياه النهر تضطر أن تدور حول هذه الكتل الضخمة، ولكن فعل المياه تغلب في النهاية وشق مجراه الحالي، ولا تزال أحجار الشلال الأول شاهدة عدل على المقاومة التي كانت ولا تزال تعترض النهر في سيره.
يضاف إلى ذلك أنه كانت تعترض النهر الصخور النوبية الأقل صلابة من الجرانيت، وقد كانت هذه الصخور تؤلف عدة شلالات صغيرة من بداية مدينة السلسلة الحالية جنوبا، فكانت تعرقل سير النهر وتضع في طريقه العقبة تلو العقبة، وكذلك كان يصادفه في سير مستويات أعلى من مستوى مجراه الحالي مما حتم تكوين عدة بحيرات خلفها في جهات مختلفة في الوادي.
ولا أدل على ذلك من بقايا السد الذي كان يعترض النهر عند جبل السلسلة، وكذلك سهل «كوم أمبو» فإنه عبارة عن حوض ماء كانت تخزن فيه المياه التي كان يعوقها سد طبيعي اعترض لها في طريقها.
ويمكننا حسب نظام القوانين الطبيعية وتكوين الأنهار أن نحكم بأن النيل مر عليه عصران متتابعان متميزان في تاريخ تكوينه.
أولا: كان النهر في بادئ الأمر ذا مياه سيالة تجري في منحدر سريع من الجنوب إلى الشمال مما جعله يقطع لنفسه أولا مجرى عظيما جدا قريب الغور، كان ينحته لنفسه على كر السنين، ثم أخذ بعد ذلك ينكمش هذا المجرى الواسع شيئا فشيئا، وكان قطاع الوادي في هذا الطور يشبه رقم 7، ولكن الاختلافات التي كانت تحدث في مقدار حجم المياه المتدفقة سنويا ، وفي قوة التيارات كانت أحيانا تزيد في حدة التآكل في الصخور وأحيانا تقلل منها، ويمكن ملاحظة شدة هذا التآكل أو ضعفه في اختلاف حجم المدرجات التي يشاهد بعضها فوق بعض على طول شاطئ النهر؛ إذ الواقع أننا نراها الآن ظاهرة واضحة في الصخور، فتارة يكون المدرج واسعا وطورا يكون ضيقا مما يدل على عدم انتظام الظواهر الطبيعية.
أما العصر الثاني فإنا نشاهد فيه أنه بعد العهد الذي حفر النهر في خلاله مجراه قد خلفه عهد آخر ارتطم فيه المجرى ثانية، وتفسير ذلك أنه بعد عهد حفر النهر مجراه شوهد أن الجزء الأسفل من المجرى قد أصبح في عمقه يقارب عمق سطح البحر، ثم وقف بعد ذلك عند هذا الحد، غير أن فعل التآكل كان لا يزال سائرا في منحدر النهر، ولكن مخلفات هذا التآكل لم تكن تكتسح كلها إلى البحر لقلة الانحدار، بل كانت تتراكم في قعر النهر، وكانت هذه الرواسب تزداد من عام إلى عام في القعر مما سبب ارتفاع منسوب مجرى النهر وقلل من حدة انحداره، ومن ثم أصبح سير مائه معتدلا، وأخذت البلاد تستفيد منه، وهناك أدلة على هذه التغيرات واضحة ظاهرة في مجرى النهر من أسوان إلى البحر الأبيض المتوسط، فمثلا في منطقة القاهرة كان النيل في الزمن الجيولوجي الثالث له مجرى يبلغ عرضه في هذه النقطة مقدارا عظيما، وكان جبل المقطم وهضبة الأهرام هما الحدان اللذان يجري النهر في وسطهما في ذلك العهد، ولكن في الزمن الجيولوجي الرابع أخذت الرواسب تغمر هذا المجرى شيئا فشيئا، وكانت تتألف من الحصى الذي كان يندفع مع التيار، ثم بعد ذلك غطى في آخر الأمر بالغرين «الطمي الحديث»، ومن ثم أخذ المجرى الواسع ينكمش تدريجيا حتى أصبح ولم يبق من هذا المتسع العظيم في تلك النقطة إلا مجرى صغير لا يزيد في اتساعه عن بضع مئات الأمتار، وفي نهاية الأمر أخذ النيل يصب في البحر الأبيض المتوسط، غير أن ذلك لم يكن بوساطة مصبه الحالي، بل بخليج ثلاثي الشكل يبعد عن البحر بنحو 200 كيلومتر تقريبا، ولكن الرواسب التي كان يأتي بها النيل سنويا أخذت تغطي هذا المصب تدريجا حتى كونت منه الدلتا الحالية، ويشغل المصب القديم جزءا من مدينة القاهرة الحاضرة.
ومن مدهشات الصدف أن «هيكاته» السائح اليوناني قد وصف مصر، أو بعبارة أخرى وصف الدلتا بأنها منحة النيل، وقد نقل ذلك عنه فيما بعد «هيرودوت» أبو التاريخ، وقد جاء هذا الوصف مطابقا للواقع، بل هو الواقع نفسه، ولا جدال في أنه في هذا العصر السحيق لم تكن هناك أية صحار في أفريقيا الشمالية؛ إذ كانت كل هذه الأقاليم من المحيط إلى المحيط تغمرها رطوبة حارة تزيد من اخضرار الأراضي، ولا بد أن منظر هذه البقاع كان يشبه أقاليم شمال البحر الأبيض المتوسط، حيث يتوقف نمو النباتات على التقلبات الجوية وأمطارها الغزيرة التي تجعل وظيفة الأنهار في ري الأراضي مسألة ثانوية محضة، فقد كانت هذه الأمطار تكون البحيرات الشاسعة التي تسبح فيها التماسيح وجاموس البحر، وتنشأ فيها المستنقعات التي تحلق فوقها الطيور، وهذه المستنقعات كانت تشغل الأماكن المنخفضة، ولا تزال الواحات الحالية شاهدا ناطقا على ذلك، ولا أدل على حقيقة ما ذكرنا من وجود بركة قارون في الفيوم والبحيرات الملحة ووادي النطرون، وكانت في المناطق التي تحيط بهذه البحيرات حيوانات بعضها من آكلة الحشائش وبعضها من آكلة اللحوم، وقد انقرض بعض أجناسها واختفى نهائيا.
وعلى هذه الحال كانت تظهر للعيان الأرض المصرية عند بداية الزمن الجيولوجي الرابع، وهو الوقت الذي ظهرت فيه أول قبيلة بشرية.
والآن نبدأ بالكلام عن هذه العصور التي أخذ الإنسان يظهر فيها، ثم أخذ يتقدم نحو الرقي شيئا فشيئا حتى وصل إلى تدوين أفكاره بالكتابة وهو بداية العصر التاريخي. (2) عصور ما قبل التاريخ
نشأ علم ما قبل التاريخ في أوروبا، ولذلك كان من البديهي أن تكون كل مصطلحاته وتعابيره العلمية أوروبية محضة، وقد بدأت دراسة هذا العلم في غربي أوروبا، ولذلك نجد بعض الاختلافات عندما نريد تطبيق ما وصل إليه من النتائج في هذه الجهة بالنتائج التي وصل إليها في شرقي أوروبا، وليس من المستغرب إذن إذا كانت هناك اختلافات في النتائج التي عرفت في أوروبا أن نجد مثلها عند تطبيقها على باقي بلاد المعمورة الأخرى، وذلك أمر طبيعي؛ إذ إن تربة كل بلد وأحوالها تطبعها بطابع خاص يميزها عن غيرها من وجوه عدة.
صفحة غير معروفة
وقبل أن نخوض في بحث موضوعنا يجب أن نتساءل: إلى أي حد يتفق عهد ما قبل التاريخ في مصر مع عصر ما قبل التاريخ في أوروبا؟ وإلى أي مدى يختلف عنه؟ والجواب على هذا، هو أنهما يتفقان معا في كثير من الأحوال إلى حد ما وصلت إليه معلوماتنا، اللهم إلا إذا ظهرت أشياء تنقض ذلك في المستقبل، ولذلك يجب علينا أن نقتفي في درس عصور ما قبل التاريخ المصري عصور ما قبل التاريخ الأوروبي، ونقرنهما ببعض ثم نقرب كلا منهما للآخر، وبهذه الطريقة يسهل علينا درس هذا العصر من تاريخ بلادنا.
وينحصر عصر ما قبل التاريخ المصري في المدة التي بدأ الإنسان يظهر فيها في وادي النيل إلى بداية الأسرة الأولى حوالي 3200ق.م.
وقد أسفرت البحوث التي قام بها العلماء في مدة الأربعين عاما الأخيرة عن تقسيم هذا العصر الطويل إلى ثلاثة أقسام رئيسية، ولا يزال العصر الأول منها غير معترف به من كل رجال هذا العلم؛ إذ البعض يقره وطائفة منهم تنكره:
العصر الأول:
ويطلق عليه اسم عصر ما قبل الحجري القديم «الأيوليتي»، وقد استعملت فيه أحجار الظران كما وجدت في الطبيعة مع بعض التهذيب.
العصر الثاني:
ويطلق عليه اسم العصر الحجري القديم «الباليوليتي» هو عصر استعمال الحجر المهذب تهذيبا بسيطا بعد القطع، ومنه يتفرع العصر الحجري الحديث «النيوليتي»، وهو عصر الحجر المصقول بعد التهذيب.
العصر الثالث:
الذي ظهر فيه استعمال المعادن، ويطلق عليه عصر بداية استعمال المعادن «الأنيوليتي»، وقد استعمل في هذا العصر الحجر والنحاس والحديد لعمل الآلات جنبا إلى جنب، وقبل أن نتكلم عن هذه العصور ببعض التفصيل، يجب أن نلاحظ أنه يكاد يكون من ضروب المستحيل أن نحدد تاريخا معينا لعصور ما قبل التاريخ في مصر، اللهم إلا عندما ندخل في عصر بداية استعمال المعادن «الأنيوليتي»، وذلك عندما نقرن الآلات التي ظهرت في العصر نضع تواريخ نسبية وبخاصة بعد درس الفخار الذي ظهر في العصر الحجري الحديث.
وكان أول من قام بهذا الدرس الفريد في بابه الأستاذ «فلندرز بتري»، وذلك بوساطة ملاحظات استنتجها من درس مقابر سليمة عثر عليها في جبانات، يرجع تاريخها إلى عصر بداية استعمال المعادن، وأمكنه أن يرتب أنواع الفخار المختلفة التي عثر عليها في تلك المقابر إلى أصناف ظهرت في أزمان متتالية، ورقمها من واحد إلى ثمانين، وهذه الأرقام تعادل ما يطلق عليه تتابع التاريخ أو تاريخ التتابع، فرقم 80 يعادل بداية العصر التاريخي الحقيقي أي العصر الذي ظهرت فيه الكتابة.
صفحة غير معروفة
وأول عمل قام به السير «فلندرز بتري» في ترتيبه التاريخي المتتابع أن أخذ رقم 30 وخصصه لأقدم ما عرف إلى عهده من أنواع الفخار، واحتفظ بالرقم من 1-30 إلى ما عسى أن يكشف عنه من فخار أقدم عهدا مما عرف، والواقع أنه كشف حديثا في جهة بلدة البداري عن موقع قديم جدا يرجع عهده إلى ما قبل رقم 30، وقد خصص له العلماء فعلا رقم 20-29، ورغم أنه يكاد يكون من المستحيل أن نجزم بتاريخ قاطع لعصر ما قبل التاريخ المصري، إلا أنه يمكننا مؤقتا أن نذكر على وجه التقريب أن العصر الحجري الحديث يحتمل أنه قد بدأ منذ 10000 سنة، وأن بداية المعادن قد بدأ منذ حوالي 6000 أو 5000 سنة، وهذه التواريخ لا ترتكز على حقائق علمية، بل وضعت لتكون مجرد مرشد أو إشارة يهتدى بها فحسب.
والآن نعود إلى التكلم عن كل عصر من عصور ما قبل التاريخ حسب ترتيبها الطبيعي في كلمة موجزة، ثم نتناول الكلام عن كل عصر بشيء من الإسهاب. (2-1) العصر الأيوليتي «عهد فجر العصر الحجري القديم»
لا جدال في أن الإنسان الأول عندما ظهر على سطح البسيطة، كان أول هم له أن يجد لنفسه سلاحا يدافع به عن كيانه ضد الحيوانات التي كانت تحيط به ويعيش في وسطها، ولا بد أن أول ما فكر فيه من الأسلحة ما كان في متناوله، فمثلا كان يقطع فرع شجرة ويهذبه ليدافع به عن نفسه، وكذلك كان يجمع ما حواليه من الأحجار الصلبة التي هيأتها له الطبيعة، ثم يهذبها بنفسه بعض الشيء ليجعل لها حدا قاطعا ويستعملها في أغراضه، وهذه الآلات التي كانت تصنع بهذه الطريقة، قد أطلق عليها في علم الجيولوجية اسم «أيوليت».
ويعزو علماء الجيولوجية هذه الآلات إلى العصر الثالث الجيولوجي، غير أن وجود هذا العصر في حياة الإنسان على ظهر الأرض مشكوك فيه، ويرجع السبب في ذلك إلى عدم وجود بقايا الإنسان في هذا العصر مطلقا.
وفي استطاعة الإنسان في مصر أن يجمع قطعا عدة من آلات هذا العصر من هضبة الصحراء، ولكنها كذلك مشكوك في تاريخها، وسبب ذلك يرجع إلى أن فعل المؤثرات الجوية مثل الحر والبرد وتعاقب الليل والنهار، يحدث تفتت قطع من الظران جديدة تشبه القطع الأيوليتية القديمة، وقد جمع الأستاذ «شفينفورت» قطعا كثيرة من هذا النوع من محطات أبواب الملوك. على أن كثيرا من هذه القطع يظهر فيها فعل يد الإنسان، ولكنا نجدها مختلطة بآلات من العصر التالي لهذا العصر، وهو ما يسمى العصر الباليوليتي (العصر الحجري القديم)، وليس لدينا ما يحملنا على الاعتقاد بأنها من عصر أقدم، والواقع أنه لا توجد محطة مصرية قديمة أو حديثة إلا وفيها آلات صنعتها يد الإنسان وقطع من صنع الطبيعة نفسها، ثم استعملها الإنسان بمهارة، ولا نزاع في أن المبدأ القائل بالاقتصاد في استعمال القوى الإنسانية في الإنتاج، قد لعب دورا عظيما في حياة الإنسان الأولى في مصر، كما كان الحال في البلاد الأخرى، ولا غرابة إذن إذا وجدنا أن الإنسان كان يستعمل القطع الطبيعية في الاستعانة بها على قضاء أغراضه في أول نشأته وفي فترة عدم درايته بالصناعات. (2-2) العصر الحجري القديم
هذا العصر يعرف بعصر استعمال الحجر المهذب، وينقسم ثلاثة أقسام: وهي الحجري القديم الأسفل، ويشمل ما يقابله في أوروبا من الصناعات الشيلية
1
والآشيلية،
2
ثم العصر الحجري القديم المتوسط، وفيه تسود الصناعات، الموستيرية
صفحة غير معروفة
Mousterienne
3
وأخيرا العصر الحجري القديم الأعلى، وقد سادت فيه الصناعة الأوريجناسية
Aurignacienne
4
ثم الصناعة السولوترنية
Solutereenne
5
ثم الصناعات المجدلية
Magdalenienne .
صفحة غير معروفة
6 (2-3) العصر الحجري الحديث
ويتلو العصر السالف عصر بداية المعادن، وهو عصر استعمال الحجر المصقول بعد التهذيب، وهذا العصر أقسامه مرتبكة ولا ضرورة للخوض فيها الآن. (2-4) عصر بداية استعمال المعادن
وهو عصر الانتقال؛ إذ في خلاله بدأ الإنسان يستعمل المعادن، وقد توالى فيه استعمال النحاس والذهب ثم البرنز فالحديد، على أن عهد استعمال الحديد في مصر كان شاذا بالنسبة للبلاد الأخرى، وذلك أن مصر في عهد أوج مجدها وسؤددها التاريخي بدأ يستعمل هذا المعدن فيها، ولم يكن معروفا من قبل. (2-5) مدينة العصر الحجري القديم
يعد هذا العصر العهد الذي وجد فيه أول أثر لبقايا الإنسان؛ إذ عثر فيه فعلا على بعض عظام بشرية وعلى الآلات التي كان يستعملها الإنسان، غير أنه من المستحيل علينا أن نحدد في أي عهد وقبل أي عدد من آلاف السنين قبل الميلاد ظهر الإنسان في العالم، وكل ما يمكن الجزم به في هذا الموضوع هو أن وجود الإنسان على ظهر البسيطة يرجع إلى أزمان سحيقة جدا، والتقديرات المعتدلة ترجع بظهور الإنسان إلى آلاف عدة من السنين، وفي خلال هذا العصر الطويل جدا قد حدثت تغيرات وتقلبات عظيمة ظاهرة جلية لا تقتصر على شكل الآلات وصناعتها ولا شكل الإنسان الذي كان يستعملها فحسب، بل تتناول كذلك التقلبات الجوية التي كانت تحيط به والتي كان من أثرها أن حدث تغير كلي في الحيوان والنباتات التي كانت تعيش وتنبت فيه، وهذا العصر الذي نحن بصدده يقع في أوائل الزمن الجيولوجي الرابع، وفيه حدثت في الجو تقلبات من بارد إلى حار كما أثبت ذلك علماء الجيولوجية.
ويتميز هذا الزمن بزحف الجليد الذي غمر الجبال الشامخة ثم تقهقر ثانية مما كان يسبب انخفاض درجة الحرارة، وكل ما يهمنا في ذلك هو أن العصر الحجري السفلي قد بدأ في نهاية عصر حدث فيه تقهقر جليدي ، على حين أن العصرين الحجري المتوسط والأعلى يتفقان مع الزمن الجليدي المتتابع، وبظهور العصر الحجري الحديث تبتدئ فترة تقهقر جليدي جديدة لا تزال مستمرة إلى يومنا هذا.
العصر الحجري القديم السفلي
يمتاز هذا العصر بجو حار رطب يشبه جو المناطق الاستوائية الآن، غير أنه كان يميل إلى البرودة التدريجية، وهذه الحالة في أوروبا تنطبق على أفريقيا الشمالية أيضا، على أن الوصف الذي أوجزناه عن القطر المصري في فجر عصر ما قبل التاريخ يمكن تطبيقه على الأقاليم الواقعة شمال حوض البحر الأبيض المتوسط، ولدينا براهين عدة من حفريات العظام التي استخرجت من رواسب الزمن البلستوسيني (الزمن الرابع)، وقد عرفنا أنه كان ينمو في أوروبا في ذلك العهد حيوانات من ذوات الثدي، في وسط غابات كثيفة وعلى شواطئ مجاري مياه، وكانت عظيمة الحجم مثل جاموس البحر ووحيد القرن، والفيل الضخم والدب والضبع والغزال والحصان وغزال الأركس. وقد اختفى كثير من هذه الحيوانات الآن، على حين أن بعضها قد هاجر فيما بعد نحو الأقطار الاستوائية هاربا من شدة البرد الذي اكتسحه في الزمن الذي تلى هذا العهد.
وعثر على بعض بقايا بشرية مختلطة ببقايا حيوانات معاصرة، غير أن ما عثر عليه لم يكن إلا أجزاء من جماجم مثل فك «مور»
7
المشهور أو بعض عظام بسيطة، وقد سهل جو هذا الزمن المعتدل للإنسان أن يعيش في الهواء الطلق على شواطئ الأنهار والبحيرات أو في الغابات، وكان هذا الإنسان يتخذ أكواخا من فروع الأشجار مسكنا له. أما مقابرهم فيظهر أنها قلبت رأسا على عقب بفعل الفيضانات التي كانت تخرب هذه الجهات تخريبا ذريعا، ولذلك لم يعثر منها على آثار تذكر، مع أن هذه البقايا الضئيلة التي عثر عليها في الرواسب - وهي بلا شك - ذات قيمة عظيمة، قد عرفنا منها أن الجنس البشري في ذلك الوقت كان منحطا جدا، غير أن عدم العثور على هيكل تام لم يمكننا من إعطاء رأي قاطع في تركيبه الطبعي.
صفحة غير معروفة
أما عن صناعة هذا العصر فإن معلوماتنا قد زادت؛ لأن بعض المواد التي استعملها إنسان ذلك العصر تكاد تكون غير قابلة للتلف رغم مر العصور. حقا إن الدبابيس ذات القبضة المصنوعة من الخشب، لم تحفظ لنا كغيرها من الأشياء المصنوعة من المواد القابلة للعطب مثل جلد الحيوان ولحاء الأشجار، التي كان يستعملها ذلك الإنسان غطاء له، ولكن أسلحة الصيد والحرب وكذلك الآلات التي كان يستعملها في سلخ فريسته كانت مصنوعة من حجر صلب وأرهف حدها، وقد قاومت هذه الآلات تأثير الزمن وبقيت إلى عصرنا هذا، وقد عثر عليها مهملة على شواطئ الأنهار مدفونة تحت طبقات سميكة من الحصا الذي دحرجته تيارات الماء السريعة معها، وكان إنسان ذلك العصر عندما يعوزه الظران وهو أهم مادة لصنع آلاته، يستعمل بدلا منه الكورتسيت أو الأحجار البركانية أو الحجر الجيري الأبيض الصلب، وأهم آلة كانت مستعملة في هذا العصر هي «البلطة» الغليظة البيضية الشكل، وقد تكون مثلثة ذات شفرات حادة تتصل بحد مرهف قاطع، وتصنع هذه الآلة من قطعة من الظران طبيعية على شكل الكلى، وذلك بإزالة شظايا متعادلة من حروف قطعة الظران هذه بوساطة أزميل، وهذه الآلة كانت عظيمة الخطر في يد المحارب، على أنها كانت كذلك تستعمل لأغراض أخرى، ويوجد نوع منها لم يهذب إلا من أحد وجهيه ويستعمل كمقطع لتخليص العظام من اللحم ولسلخ الجلود.
وخلافا لهذه الآلات التي يطلق عليها ذات الوجهين
Bifaces ، والتي قد تصل أحيانا إلى حجم عظيم، فإن إنسان هذا العصر استعمل شظايا بسيطة كان يحصل عليها بقطع كلية من الظران تهمل نواتها في النهاية، ويلاحظ دائما أن كل شظية تقطع بهذه الكيفية فيها بروز مستدير عند النقطة التي وقع عليها الكسر، الذي يترك أثرا على هيئة تجويف في النواة نفسها، وهذه العلامة تعد بمثابة خاصية مميزة للمصنع الذي صنعت فيه، مما يثبت لنا أن هذه الشظية قد قطعت وهذبت قصدا وذلك مما لا يوجد في الشظايا الطبيعية.
وهذه الشظايا مرهفة الحد كالموسى القاطع، ولذلك كانت تستعمل بدلا من السكاكين ، وأحيانا تستعمل كمشط، وذلك بعد إجراء بعض إصلاح في أحد وجهيها أو في نهاية الشظية، وهذه الإصلاحات أو «الرتوش» لا تتناول الوجه العلوي من الشظية، ولذلك يطلق عليها اسم الآلات ذات الوجه الواحد، وكذلك يدخل تحت هذا النوع من الآلات ذات الوجه الواحد الشظايا التي كانت تصنع بهذه الكيفية، لتحضير الجلود والعظام التي كان يستعملها إنسان هذا العصر.
أما عن أخلاق هذا الإنسان وعاداته، فإنا لا نكاد نعرف عنها شيئا قط، اللهم إلا أنه كان لا يختلف كثيرا عن قبائل الأقزام الذين يتجولون في الغابات الاستوائية، ويعيشون على صيد البر والبحر.
وإذا كنا لا نعرف شيئا عن هذا الإنسان من الوجهة الاجتماعية أو الخلقية والدينية، لأنها لا تزال موضع تخمين، إلا أننا من جهة أخرى يمكننا أن نحكم عليه من الآلات التي صنعها، والتي هي الآن في متناولنا؛ إذ تبرزه لنا كإنسان راق يسيطر بذكائه على الحيوان الذي يشن عليه الحرب يوميا، يضاف إلى ذلك أنه كان في قدرته أن يخترع ويحسن كل ما هو في متناوله، فقد عرف كيف يوقد النار ويطهو طعامه، هذا رغم أنه كان لا يعرف إلى هذا الوقت صناعة الفخار، واستعداد هذا الإنسان وقدرته على أسباب الرقي يظهر جليا عندما ننتقل من طبقة إلى أخرى في القطاعات التي بحثت في الأماكن التي يرجع عهدها إلى العصر الحجري القديم، فمثلا نلاحظ أن البلطة الثقيلة الخشنة الصنع التي توجد في أسفل طبقة من العصر الحجري تخف تدريجيا في الطبقات العلوية، ويحل محلها آلات أحسن صنعا، وبذلك تختفي الصناعة الشيلية الخشنة أمام الصناعة الآشلية التي أنتجت آلات تعد من فرائد الفن.
ظران من العصر الحجري القديم السفلي (صناعة شيلية عثر عليها في «إسنا»).
على أن كل ما كشف إلى الآن في أوروبا من العصر الحجري القديم السفلي ينطبق في مجموعه على كل ما عثر عليه في مصر.
ظران من العهد الشيلي عثر عليه على طريق القوافل بين الواحة الخارجة و«العرابة».
قبضة يد من الظران من العصر الشيلي الأوربي.
صفحة غير معروفة
بلط من الظران عثر عليها في طيبة من العهد الآشيلي.
قبضة يد من الظران من العصر الآشيلي «تستعمل كبلطة».
وكذلك الأبحاث العدة التي عملت في أفريقيا الشمالية تتفق مع ما كشف في أوروبا، وقد صرح علماء ما قبل التاريخ بأن حالة الحياة كانت على ساحل البحر الأبيض المتوسط كله واحدة، ولا ريب أن في هذا الزمن كان مضيق جبل طارق مفتوحا في بداية الزمن البلستوسيني، وبذلك انمحى الاتصال القديم الذي كان بين إسبانيا ومراكش، ولكن يظن في الوقت نفسه أنه كانت هناك قنطرة عظيمة طبيعية تربط تونس بصقلية وإيطاليا الشمالية ولو أن ذلك مشكوك فيه إلا أنه - على كل حال - لم يكن الاتصال عسيرا بين شاطئ بحر داخلي أقل اتساعا من البحر الأبيض المتوسط الحالي.
ويمكننا أن نشبه هذا القطر - الذي انكمش الجزء المسكون منه إلى شريط ساحلي - بجنة تجري من تحتها الأنهار، حيث كانت الأمطار الغزيرة تكسوه خضرة يانعة وغابات تحف جبال الأطلس الشاهقة، وأشجار تغطي السهول، وكانت عيون الماء والأنهار تتدفق فيها مجتذبة إليها حيوان أفريقيا المختلف الأنواع كالجمل وحمار الحبشة والقردة ومختلف أنواع الغزال والثيران التي تشبه حيوانات أوروبا في هذا العهد، وفي هذا الإقليم الذي يكثر فيه حيوان الصيد نجد آثار الإنسان في كل مكان إلى مسافات آلاف الكيلومترات من وسط المساكن الحالية.
وكان وادي النيل الذي لم يكن يفصله إلا فاصل صحراوي عن الممالك المجاورة له في ذلك الوقت يتمتع بمناخ يشبهها، وفيه من الحيوانات مثل ما فيها، وقد عثر على بعض بقايا منها ولكنها لا تعطينا فكرة واضحة، ولا شك أن الأسنان والعظام التي استخرجت من مصب النيل عند سهل العباسية الحالي، قد سدت نقصا كان في سلسلة الملاحظات التي قام بها علماء الحيوان والنبات لذلك العهد، من مراكش إلى تونس. ورغم أن دراستها لم تتم إلى الآن إلا أننا نعلم أنها لتماسيح وحيوانات ثديية عظيمة الحجم مثل الفيل وجاموس البحر والثيران، وهذه العظام والأسنان تشبه عظام الحيوانات المنسوبة للعصر الحجري القديم السفلي التي عثر عليها في أفريقيا الشمالية، وإذا كانت الرواسب النيلية لم تكشف لنا للآن عن بقايا بشرية، فإننا من جهة أخرى قد عثرنا على آلات شيلية وآشلية تشبه ما عثر عليه في أوروبا في ذلك العهد، وبذلك ظهر لنا أن وحدة الحيوان والجو في كلا الجهتين كانت متشابهة، وقد عثر فعلا على «بلط» مبعثرة أو مجتمعة على سطح الأرض في كل مكان تقريبا، فنجدها على الهضاب التي كانت تحتضن النهر في ذلك الوقت، وعلى المرتفعات التي انحسرت عنها المياه، وفي قعر الوديان، وفي منحدراتها.
وقد سبق أن ذكرنا المصانع التي عثر عليها «أرسلان» في تلال أبواب الملوك، وقد استغلها من بعده عدد من الباحثين، وقد عثروا على بعض آلات جميلة لوزية الشكل لونها لون الشيكولاتة وذلك مميز خاص لها، ويوجد منها عدد عظيم يزين متاحف أوروبا الآن، وقد كشف عن أماكن أخرى العالم «دي مرجان» في الوجه القبلي مثل طوخ و«العرابة» وإسنا، وكذلك عثر على مصانع في الفيوم وفي منطقة الأهرام بمنف، ومنذ ذلك العهد أخذت الكشوف تترى في كل جهات الوادي، وسنكتفي بذكر أهمها ونخص بالكلام المحطة التي عثر عليها بالقرب من نجع حمادي المعروفة بأبي النور ومصنعا في الجبل الأحمر الواقع في الشمال الشرقي من القاهرة، وقد وجدت فيه مجموعة آلات مصنوعة من حجر الكوارتسيت، وبالقرب من قنا عثر على مصنع يرجع عهده إلى الصناعة الآشيلية.
وقد كشفت الأبحاث أن العصر الحجري القديم السفلي لا يقتصر على شاطئ النيل، بل يمتد إلى الصحاري التي تحتضن هذا النهر العظيم بين جنبيها، ولا أدل على ذلك من الآلات التي وجدها الأب «ريشار» في الغابات المتحجرة الواقعة شرقي القاهرة الحالية، وقد كان وجودها في هذا المكان الباعث له على هذه الفكرة، ثم جاءت أبحاث العالم «شفينفورت» أيضا تؤيد هذه الفكرة، ولما كان العالم «دي مرجان» كلف بمعرفة مقدار امتداد الصناعات الأولية الفطرية لذلك العصر، أرسل العالم «لجران» لارتياد الصحراء اللوبية، وفعلا صادف في طريقه من الأقصر إلى الواحة الخارجة ثم من الخارجة للعرابة المدفونة عدة مصانع سطحية، وكذلك عثر على طرق قديمة كانت تبتدئ من النيل إلى الواحات، وقد لاحظ قاعدة عامة هي أنه عند كل عقبة - أي عند كل نقطة يجتاز فيها طريق القوافل هضبة حادة - كانت توجد محطة من العصر الحجري القديم السفلي، وكذلك قام «هنري دي مرجان» شقيق «دي مرجان» مدير مصلحة الآثار برحلة، وقد لاحظ نفس الملاحظات في الوديان التي تربط إسنا بواحة كركور.
ولا يفوتنا أن نذكر هنا المصانع العدة التي عثر عليها «شفينفورت» قبل بداية الحرب العظمى في أبي العجاج الذي ينفذ على النيل شمال أسوان، وهذه المصانع كانت تصنع فيها آلات من الحجر النوبي، وقد قام عدد من العلماء في السنين الأخيرة بفحص الواحات فحصا منظما فعثرت الحملة التي قام بها الأمير كمال الدين حسين على آلات من الصناعة الشيلية والآشيلية على الهضاب التي تمتد غرب الواحات، ويمكن رؤيتها حتى على مرتفعات «العوينات» في قلب الصحراء.
على أن هذه المحطات السطحية مهما كانت فائدتها، فإنها في الواقع لم تشف غلة الباحث المدقق إلا قليلا. إذ إنها وإن كانت قد كشفت لنا عن وجود إنسان العصر الحجري القديم ومواطن سكناه في مصر إلا أنها لم تبرز لنا شيئا عن صناعته وتدرجها نحو الرقي، ويلاحظ أن هذه الأماكن التي كان يختارها الإنسان الأولي قريبة من المياه ومن مناطق خصبة عامرة بالنبات زاخرة بحيوان الصيد، كانت تسكن القبائل الفطرية أحيانا قرونا عدة حتى يأتي وقت يضطرون فيه إلى الهجرة منها. ومن أجل ذلك نجد على سطح الأرض آلات مختلطا بعضها ببعض وأسلحة من الحجر تركها السكان الذين كانوا غالبا من شعوب مختلفي الثقافة، وليس من السهل وجود أماكن لم يحدث فيها اختلاط، وقد كان من حسن حظ الباحث «سند فورد» أنه عثر على محطة من هذا النوع الأخير في إقليم قنا.
ومنذ زمن بعيد أخذ العلماء يبحثون عن الرواسب التي تخبئ في باطنها أقدم الآلات التي صنعها الإنسان الفطري، وقد جادت الصدف السعيدة بوجود آلات مرتبة حسب قدمها في طبقات جيولوجية بعضها فوق بعض، وقد حاول بعض العلماء من قبل الوصول إلى ذلك، ولكنهم لم يفلحوا حتى أسعد الحظ العالم «دي مرجان» قبل موته ببضعة أشهر، فعثر على رواسب في طبقات بعضها فوق بعض حلت المشكل نهائيا، وهذه الرواسب كانت موجودة غير أنه كان من الضروري البحث عنها في مظانها، وكان ذلك لا يتأتى إلا في جوف الأرض على بعد عميق؛ أي عند مصب النهر القديم؛ إذ هناك تقف المياه في طريق مجراها، وتترك رواسبها التي لا يمكن حملها أبعد من ذلك، وقد كان من الطبيعي أن تتجمع هذه الرواسب طوال مدة العصر الحجري القديم السفلي حافظة في طبقاتها التي تكون بعضها فوق بعض بقايا الصناعات المعاصرة لكل طبقة.
صفحة غير معروفة
وهذه الأراضي قد أصبحت في مستوى واحد عند بداية الدلتا وعلى حافتها، حيث لم يتمكن الغرين الحالي من تغطيتها بعد أن زالت عنها المياه، وجفت في أول العصر الحجري القديم، وبهذه الكيفية بقي سهل العباسية الصغير لم يمس بعيدا عن فعل الفيضان، وهذا السهل يمتد من سفح هضبة النيل القديمة الواقعة في الشمال الشرقي من القاهرة، وقد سهل أخذ الرمل والزلط لمباني مدينة القاهرة الحالية منه حفر هذا الشريط الصحراوي إلى عمق عظيم يبلغ نحو 30 مترا أو يزيد، كما سهل ذلك أيضا درس المنطقة ومحتويات طبقاتها، وفعلا وجدت الرواسب النيلية فيها بسمك عشرة أمتار في المتوسط، وعثر في وسط الزلط على الآلات التي تبرهن على توالي صناعات العصر الحجري القديم تواليا تاريخيا، فوجدت الآلات الشيلية ثم الآشيلية بعضها فوق بعض، وقد اختلط بها بعض بقايا الحيوانات المعاصرة، وهذه الآلات وجدت منفصلة بوضوح عن الآلات الموستيرية التي لا توجد إلا على سطح السهل، وقد حقق هذه النتيجة البحث الذي قام به كل من الأثري «سند فورد» و«أركل»، وكانت جامعة شيكاجو قد كلفتهما ببحث عام في وادي النيل، وتوابعه فقاما ببحوث منظمة في رواسب مرتفعات جهات «قاو» و«أرمنت» ومنخفض الفيوم، وقد كانت البحوث منتجة وبخاصة في «وادي قنا» حيث أصاب الباحث «مري» نجاحا من قبل؛ إذ جمع مجموعة من الآلات الجميلة، فهناك وجدت آلات العصر الحجري القديم السفلي في مكانها الأصلي في الرواسب البلستوسينية كما وجدت صناعات مما يرى على السطح، فوجد منها من أول الشيلية إلى الموستيرية، وكان بعضها منفصلا عن بعض بوضوح على المرتفعات التي يتراوح عمقها بين 35 مترا وخمسة أمتار تقريبا على كلا شقي الوادي.
العصر الحجري القديم المتوسط
ترجع معرفتنا للإنسان الموستيري في أوروبا أكثر من معرفتنا لإنسان العصر الذي سبقه إلى عوامل طبيعية غيرت معيشته تغيرا عظيما، وذلك أن درجة الحرارة التي كانت مرتفعة في العصر الشيلي قد أخذت في الانخفاض في العصر الذي أعقبه، كما تبرهن على ذلك كثرة الرواسب الآشيلية من بقايا فيل عظيم ذي شعر كثيف، وهو المعروف بالماموث الذي لا يعيش الآن في الجو البارد، وبانتهاء العصر الحجري القديم السفلي ينتهي كذلك عصر تقهقر الجليد، ويتفق العصر الحجري القديم المتوسط مع عصر جليد طويل امتد حتى العصر الحجري القديم الأعلى، وفي ذلك العصر أخذت الحيوانات ذوات الجلد السميك تتقهقر نحو الجنوب متخلية عن أماكنها تدريجا إلى الحيوانات الأخرى ذوات الثدي التي هاجرت من البلاد الشمالية، ولم يبق في مكانه إلا الماموث ووحيد القرن صاحب الخرطوم المقسم بنتوء، وفي خلال هذا العصر أخذ الإنسان يتخلى عن عيشة الهواء الطلق، واتخذ مأواه إما تحت الصخور أو في الكهوف العميقة التي كان يشاطره فيها الضبع ودب الكهوف التي كانت أول من سكنها، أما موقده فكان يقيمه على الفضاء الذي يتقدم مدخل كهفه أو عند باب الكهف نفسه.
وهناك وجدت مخلفاته وجبانته مختلطة مع بقايا آلاته، وقد تكون من هذه البقايا فيما بعد أكوام من الرواسب متماسكة بفعل الترشيح المختلط بالمواد الجيرية، وفي هذه الأكوام تجمعت عظام الحيوانات التي كان يصطادها الإنسان مع آلات الظران. وهذه الأكوام كانت في الواقع بمثابة سجلات غير مكتوبة وبها يمكن المؤرخ أن يعرف مقدار الرقي أو الانحطاط في الصناعة من مستوى لآخر من الطبقات التي كان بعضها موضوعا فوق بعض وضعا تاريخيا، وكذلك يمكنه أن يرتب حيوانات هذا العصر حسب قدمها التاريخي، وأعظم من ذلك كله أن الإنسان الموستيري كان يدفن في هذه المغارات نفسها ومعه حليه وسلاحه، وقد كان مجهزا بما يحتاج إليه في آخرته، وقد عثر على هياكل آدمية تامة درست درسا علميا، ولا شك أن الحفائر المنظمة التي عملت في هذه المقابر التي سكنها الإنسان مددا طويلة مكنت العلماء من وضع أساس لتاريخ الصناعات التي أتت متتابعة منذ العصر الموستيري إلى العصر الحجري الحديث، وقد بدت تغيرات واضحة في فن تهذيب الظران؛ إذ نجد أن الدبوس الذي حذق في إتقانه الإنسان الآشيلي إلى درجة عظيمة قد أخذ ينحط انحطاطا عظيما في عهد الإنسان الموستيري؛ إذ صغر حجمه حتى أصبح ضئيلا جدا، وكان ذلك بمثابة إعلان لإهمال استعماله، أما الآلة الخاصة بهذا العصر فهي شظية من الظران مثلثة الشكل مرهفة الحد قد اقتطعها الصانع من نواة حجرية جهزت بعناية لهذا الغرض بطريقة تحتاج إلى مهارة فائقة، وقد أطلق المؤرخون على هذه الآلة اسم ظهر السلحفاة لقربها من هذا الشكل، وهذه الآلات الحادة كانت بمثابة سهام يثبتها المحارب في نهاية حربته، وكذلك كان يصنع شظايا أخرى يستعملها محشة أو مقراضا أو منشارا لحاجياته اليومية. على أن كل هذه الآلات كانت لا تهذب إلا من وجه واحد وهو العلوي عادة أما تهذيب الوجهين فقد استمر على العكس يستعمل في بعض «أقراص» ذات حد قاطع، وهي التي كانت تستعمل أحجارا للمقلاع.
وقد انتشرت المدنية الموستيرية كسابقتها في كل أفريقيا الشمالية وعثر عليها في آسيا، وقد وجدت براهين عدة تثبت ذلك، وبينما نجد وحدة ظاهرة في الجو والصناعة في العصر الشيلي الآشيلي على كلا شاطئي البحر الداخلي؛ إذ نجد في الوقت نفسه أنه قد ظهر خلاف بين الموستيري الأوروبي وما يماثله في أفريقيا. حقا قد عثر في جبال الأطلس وبلاد الحبشة على آثار امتداد الجليد، والرواسب التي عثر عليها في كهوف بلاد الجزائر مما يدل على أنها كانت مستعملة، ولكن من جهة أخرى تدل الملاحظات العامة التي قام بها العلماء على أن برودة الجو التي كانت محسوسة تماما في أوروبا في العهد الحجري القديم المتوسط، كانت أقل بكثير في المنطقة الأفريقية؛ وذلك لأن انخفاض الجبال الأفريقية لم يساعد على تكوين جليد بدرجة عظيمة مثل الجليد الذي كان في أوروبا الوسطى.
أما الحيوانات وإن كان قد حدث فيها بعض التغيير إلا أنها بقيت على حالتها الاستوائية أو السودانية، فلم نجد من بينها الماموث أو الحيوانات الأخرى التي تميز العصر الموستيري، وفي الجملة، فإن الحالة العامة للحياة قد بقيت تقريبا كما كانت عليها في العصر المتقدم الذكر، وقد كان إنسان العصر الموستيري أكثر سعادة في أفريقيا منه في أوروبا؛ إذ كان الأخير مضطرا لأن يعيش في الكهوف، أما الإنسان الأفريقي فقد استمر يعيش في الهواء الطلق ويتمتع بالصيد، والظاهر أن الكهوف لم تكن تستعمل إلا عندما تكون بالقرب من الجبال حيث يشعر الإنسان ببرودة الثلج، أما في مصر حيث كان ارتفاع الجبال ضئيلا، فإنه لم يعثر على كهف سكن فيه الإنسان يرجع تاريخه إلى هذا العصر، والواقع أن المحطات الموستيرية توجد عادة على سطح الأرض وهي في تبعثرها تتفق في مجموعها مع المحطات التي عثر عليها في العصر السابق، والآلات المدببة التي يمتاز بها هذا العصر، وهي التي وجدت معها النواة التي صنعت منها، فقد عثر عليها في أماكن عدة في وادي النيل وفي المناطق الصحراوية التي كانت لا تزال وقتئذ آهلة بالسكان، وقد وجدت هذه الشظايا المدببة في حالات كثيرة مختلطة مع البلط التي خلفها السكان الأول، وهذا الاختلاط العادي لتلك الآلات الذي يمكن ملاحظته على حدود الصحراء، كما يلاحظ في مصانع تلال طيبة قد حدا بالعالم «دي مرجان» أن يعتقد أن هذين الصنفين من الصناعة قد أخرجتهما يد واحدة في عصر واحد، أما الرأي القائل بأن الصناعات الموستيرية قد وجدت في أماكن مختلفة منفصلة بوضوح عن الصناعة الشيلية الآشيلية، فأصبح لا يؤخذ به، وقد اعترف العالم «دي مرجان » نفسه في كتابه الذي طبع بعد وفاته بذلك الرأي ، وتفسيرا لذلك يمكن الإنسان أن يقارن محطات الجبل الأحمر بمحطات العباسية التي لا تبعد عن بعضها إلا بضع مئات من الأمتار، فيلاحظ الإنسان في الأولى آلات من الشظايا المدببة يرجع عهدها إلى العصر الموستيري وبلطا من العصر الآشيلي، وكلا النوعين قد اختلط بصاحبه. كل هذه وجدت مطمورة في سفح الهضبة على طول مجرى ماء مختف، أما في المحطة الثانية «العباسية» فإن الأمر على عكس ذلك فالآلات التي توجد على عمق بعيد يرجع عهدها إلى العصر الحجري القديم السفلي، أما الآلات الموستيرية فإنها تظهر على سطح الأرض، وذلك أنه لما كان تقهقر الماء محسوسا في ذلك العصر فقد تسبب عنه ظهور رواسب متراكمة في خلال القرون التي سلفت في قعر مصب النهر الذي أصبح فيما بعد بداية الدلتا.
أسلحة مدببة من الظران (صناعة موستيرية).
وهذه الأراضي المتخلفة سمحت لبعض القبائل الموستيرية أن تعيش عليها، وقد جاءت الأبحاث العلمية المنظمة التي قام بها علماء ما قبل التاريخ وعلماء الجيولوجية منذ عدة أعوام مثبتة لهذه النتيجة الأولى، ومن أهم هذه الأبحاث ما قامت به كل من «مس كيتون» و«مس جردنر» في الفيوم. إذ عثر على بحيرة قديمة موستيرية، وهي التي عرفت بقاياها فيما بعد ببحيرة موريس، وقد بقي جزء منها إلى الآن يطلق عليه اسم بركة قارون، وكذلك عثر العالم «سند فورد» وزميله «أركل» في الوجه القبلي وفي الفيوم على محطات موستيرية على تلال قليلة الارتفاع بين أغوار الوديان الحالية، وبين السطح الأعلى الذي توجد فيه الصناعات الشيلية والآشيلية، وتدل الملاحظات العدة التي استنتجها العلماء واتفقوا عليها جميعا أن البلاد كانت - ولا تزال - في ذلك العهد في معظمها تروى، غير أن النيل وروافده كانت قد أخذت في النقصان رغم شدة انحدارها، وكان النهر إذ ذاك آخذا في حفر مجراه إلى عمق بعيد، وفي الوقت نفسه بدأ مجراه ينكمش كما يبدو ذلك من تدرج انكماش شاطئيه، ولا نزاع في أن الإنسان كان يتبع المياه التي لا مندوحة لحياته عنها في تقهقرها، وقد بقي هكذا يتبع سير تقهقر المياه في خلال العصور التي تلت بدون انقطاع حتى أصبح النيل على ما هو عليه الآن.
العصر الحجري القديم الأعلى
أخذت الاختلافات التي كانت بين أوروبا وأفريقيا في العصر الحجري القديم المتوسط تزداد في خلال العصر الحجري القديم الأعلى؛ إذ بدأ البرد يزداد شدة في أوروبا وكان في البداية رطبا ثم ازداد حدة حتى صار قارسا في النهاية، وقد شاهد الإنسان الموستيري كثرة وجود الماموث، كما وجد جاموس البحر بكثرة في العصر الشيلي، ومنذ ذلك العهد أخذ الماموث يندر وجوده في آن واحد وأخذ الحيوان المسمى بالوعل - نوع من الغزال له قرون متفرعة - يظهر، وكذلك أخذ الحصان يظهر بكثرة، أما الإنسان فقد بقي يسكن كهفه حيث عثر على طبقات جديدة البقايا عرفنا منها تدريجيا مستوى الأرض. أما المقابر فكانت تحفر بجوار الموقد، وقد عرفنا منها الجنس البشري الجميل الذي أطلق عليه العلماء اسم
صفحة غير معروفة