[الموسوعة الموجزة في التاريخ الإسلامي]
• نقلا عن: موسوعة سفير للتاريخ الإسلامي
• نقلها وأعدها للشاملة: أبو سعيد المصري
عدد الأجزاء: 16 (9 عصور، و 7 ملاحق)
[الكتاب مرقم آليا]
صفحة غير معروفة
الجزء الأول
عصر النبوة والخلافة الراشدة
تأليف:
أ. د. عبد الشافي محمد عبد اللطيف
أستاذ التاريخ والحضارة الإسلامية بجامعة الأزهر
الفصل الأول
*العالم قبل الإسلام
جغرافية بلاد العرب:
بلاد العرب شبه جزيرة، تقع جنوبى غربى قارة آسيا، يحدها «البحر
الأحمر» من الغرب، و «الخليج العربى» من الشرق، و «بحر العرب»
و «المحيط الهندى» من الجنوب، وبادية «الشام» من الشمال، وتبلغ
مساحتها أكثر من مليونى كيلو متر مربع، ويقسمها الجغرافيون إلى
خمسة أقاليم رئيسية هى:
- إقليم تهامة: وهو شريط ساحلى يطل على البحر الأحمر، وسمى
بتهامة لارتفاع درجة حرارته، وركود هوائه.
- إقليم الحجاز: ويقع شرقى «تهامة»، ويمتد من «الشام» شمالا إلى
«اليمن» جنوبا، وتقع عليه سلسلة جبال «السراة»، وسمى بالحجاز؛
لأنه يحجز بين «تهامة» فى الغرب و «نجد» فى الشرق. وتقع فى هذا
الإقليم «مكة» المكرمة، و «المدينة» المنورة.
- إقليم نجد: ويقع شرقى «الحجاز» ويمتد من صحراء بادية
«السماوة» شمالا حتى قرب حدود «اليمن» جنوبا، وسمى «نجدا»؛
لارتفاع أرضه.
- إقليم العروض: وهو الجزء الشرقى من شبه الجزيرة العربية، ويطل
على «الخليج العربى».
- إقليم اليمن: وهو الجزء الجنوبى الغربى من شبه الجزيرة العربية.
وهذه المساحة الكبيرة ذات طبيعة صحراوية، لا يجرى فيها نهر
واحد، ولا تسقط الأمطار إلا نادرا، باستثناء إقليم «اليمن» الذى
تسقط فيه بعض الأمطار الموسمية، وبخاصة فى فصل الصيف، مما
يسر لأهلها حياة مستقرة نتيجة اشتغالهم بالزراعة، وساعدهم على
إقامة حكومات منظمة، وإقامة حضارة راقية، وقد اشتهر هذا الإقليم
باليمن السعيد.
أما بقية أجزاء شبه الجزيرة العربية فقد قلت فيها الزراعة أو كادت
تنعدم؛ لندرة المياه عدا بعض الواحات التى بها عيون للمياه، ساعدت
على نمو الحشائش التى ترعاها الماشية، وزراعة بعض المحاصيل
كالشعير والقمح.
مكة المكرمة:
تقع «مكة» المكرمة فى إقليم «الحجاز»، شرقى مدينة «جدة» بنحو
سبعين كيلو مترا، وترتبط نشأتها بقصة «إبراهيم الخليل» وابنه
صفحة ١
«إسماعيل» عليهما السلام، حيث أمر الله تعالى نبيه «إبراهيم» أن
يذهب بابنه «إسماعيل» إلى الوادى الذى نشأت فيه «مكة»؛ وأن
يسكنه فيه، فامتثل «إبراهيم» لأمر الله، وارتحل إلى ذلك الوادى
وكان قفرا (ليس به زرع أو ماء)، خاليا من السكان، وترك زوجه
«هاجر» وابنها الطفل «إسماعيل»، وفى هذا يقول الله تعالى على
لسان «إبراهيم» عليه السلام:
{ربنا إنى أسكنت من ذريتى بواد غير ذى زرع عند بيتك المحرم}.
[إبراهيم: 37].
وإكراما لإسماعيل فجر الله - تعالى - بئر «زمزم»، بعد أن يئست أمه
«هاجر» من وجود الماء، وهى تسعى باحثة عنه بين صخرتى
«الصفا» و «المروة»، وقد أصبح السعى بينهما ركنا من أركان الحج.
كان وجود الماء فى هذا المكان عجبا، فجذب القبائل التى كانت
تسكن بالقرب منه، وهى قبائل «جرهم» فجاءوا إلى «هاجر»،
وطلبوا منها السماح لهم بأن ينتفعوا بماء زمزم، فأذنت لهم ورحبت
بهم؛ ليؤنسوا وحدتها هى وابنها، وبدءوا يقيمون بيوتهم حول بئر
«زمزم»، ومن هنا كانت نشأة «مكة» المكرمة، وفيها عاشت
«هاجر» وابنها «إسماعيل» بين قبائل «جرهم»، ولما كبر تزوج
منهم، وأنجب أولاده الذين هم أجداد العرب المستعربة.
واتسعت «مكة» شيئا فشيئا، وزحف إليها العمران، وذاعت شهرتها
بين المدن، بعد أن أمر الله - تعالى- «إبراهيم» - عليه السلام - فى
إحدى زياراته لابنه «إسماعيل» ببناء «الكعبة المشرفة»، فأصبحت
«مكة» مكانا مقدسا، وزادها الله تشريفا بهذا البناء.
و «الكعبة» التى بناها نبى الله «إبراهيم» - عليه السلام - بناء مربع
الشكل تقريبا، يبلغ ارتفاعه نحو خمسة عشر مترا، وعرض جداريه
الشمالى والجنوبى نحو عشرة أمتار، والشرقى والغربى اثنا عشر
مترا.
ويقع باب «الكعبة» فى الجدار الشرقى، وفى الطرف الجنوبى منه
يقع «الحجر الأسود»، وهى منذ بنائها مثابة للناس وأمن، كما أخبر
بذلك الله - تعالى - فى القرآن الكريم، وظلت قبائل «جرهم» تقوم
صفحة ٢
على خدمة «الكعبة»، ورعاية حجاجها، إلى أن ضعفت، فحل مكانها
فى تلك المهمة قبائل «خزاعة»، التى ضعفت هى الأخرى بعد فترة،
فخلفتها قبيلة «قريش» بزعامة «قصى بن كلاب» الجد الرابع للنبى
- صلى الله عليه وسلم -، فأسس دار الندوة فى «مكة»، وهى أشبه ما
يكون ببرلمان صغير، يتشاور فيه زعماء «قريش» حول شئونها،
ونظم «قصى بن كلاب» السقاية، وهى جلب الماء للحجاج من آبار
بعيدة، بعد أن ردمت قبائل «جرهم» بئر «زمزم» عندما غلبتها
«خزاعة» على أمرها وتركت «مكة»، واهتم بالسدانة، وبالرفادة
وهى إطعام الحجاج، وبالحجابة وهى خدمة «الكعبة» وتولى
مفاتيحها، وباللواء وهو راية الحرب، وكان ذلك كله فى يد «قصى»،
ولكن بعد وفاته قسمت هذه المناصب بين أحفاده.
أحوال العرب قبل الإسلام:
يقسم علماء الأنساب العرب إلى:
- عرب بائدة؛ وهم الذين هلكوا ولم يبق من نسلهم أحد، مثل: «عاد»،
و «ثمود» و «طسم»، وغيرهم.
- وعرب باقية، وهم قسمان:
أ - عرب عاربة، وهم أهل «اليمن» الذين ينسبون إلى «يعرب ابن
قحطان».
ب - وعرب مستعربة، وهم الذين ينسبون إلى «عدنان» الذى يتصل
نسبه بإسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وسموا مستعربة؛ لأن
أباهم غير عربى وهو «إسماعيل» - عليه السلام - وأمهم عربية من
«جرهم».
أحوال العرب السياسية:
عرفت بلاد العرب الحياة السياسية المنظمة قبل الإسلام، وبخاصة فى
«اليمن»، حيث الزراعة والاستقرار، فقامت فيها دول كثيرة متعاقبة،
مثل: دولة «معين»، ودولة «قتبان»، ودولة «سبأ» التى سميت بها
سورة من سور القرآن الكريم، ودولة «حمير» التى ظلت قائمة حتى
احتلتها «الحبشة» فى بداية القرن السادس الميلادى، ثم استولى
عليها «الفرس»، وظلت كذلك إلى أن حررها الإسلام من الاحتلال
الفارسى، وأسلم أهلها.
وقامت فى «اليمن» حضارة عظيمة، فاشتهرت ببناء السدود كسد
مأرب، لخزن مياه الأمطار لاستخدامها فى الزراعة، وازدهرت فيها
صفحة ٣
التجارة؛ بسبب موقعها الجغرافى المتميز على المدخل الجنوبى
للبحر الأحمر؛ مما جعلها مركزا تجاريا كبيرا بين الشرق الأقصى
وشرقى «إفريقيا» بل و «أوربا».
وبعد انهيار «سد مأرب» وتدهور الحياة الاقتصادية هاجر العرب من
«اليمن» إلى أطراف شبه الجزيرة العربية فى الشمال، وأقاموا
إمارات عربية، ظلت قائمة إلى ما بعد ظهور الإسلام، فنشأت إمارة
«المناذرة» فى «العراق»، وكانت عاصمتها مدينة «الحيرة»، وإمارة
«الغساسنة» فى جنوب «الشام».
وكانت هناك إمارات عربية أخرى فى شرقى شبه الجزيرة العربية،
فى «البحرين» و «اليمن»، وفى جنوبيها الشرقى فى «عمان»،
وكلها أسلمت فى عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأصبحت
جزءا من الدولة الإسلامية.
وأما بقية شبه الجزيرة فكان يعيش أهلها حياة قبلية، حيث يحكم كل
قبيلة شيخ، هو صاحب الكلمة النافذة، والأمر والنهى فيها.
الحياة الاجتماعية:
اختلفت الحياة الاجتماعية فى بلاد العرب من مكان إلى آخر باختلاف
حياة الحضر والبدو، فالأجزاء الحضرية التى تتمتع بحياة مستقرة
وبنظم سياسية يقسم المجتمع فيها إلى طبقات: طبقة الملوك والحكام
والأمراء، وهم يمثلون قمة الهرم الاجتماعى، وينعمون بحياة الترف
والنعيم، تليهم طبقة التجار والأثرياء، ثم تأتى طبقة الفقراء فى
أدنى الهرم الاجتماعى.
أما البدو فيتألفون من طبقتين:
- طبقة السادة، وهم فى الواقع كل العرب البدو، سواء أكانوا
أغنياء أم فقراء، فالفقر لم يكن يحد من حرية الإنسان العربى
وسيادته، فمهما يكن فقيرا فهو مالك لزمام نفسه، معتز بحريته.
- وطبقة العبيد والخدم، وكان يمتلكهم الأغنياء، وعلى عاتق هذه
الطبقة قامت الحياة الاقتصادية.
واتسمت حياة البداوة بعادات بعضها جميل محمود، أبقى عليه
الإسلام وشجعه، كالكرم والنجدة وإغاثة الملهوف، وبعضها الآخر
قبيح مرذول حاربه الإسلام حتى قضى عليه، كوأد البنات خوفا من
صفحة ٤
العار، وهذه العادة كانت - فى واقع الأمر - فى قبائل معينة ولا تمثل
نظرة العرب كلهم إلى المرأة، لأنها كانت عندهم محل اعتزاز وتقدير
بصفة عامة.
الحياة الدينية:
عرفت بلاد العرب التوحيد قبل الإسلام بزمن طويل، فقد نزلت فيها
رسالات سماوية، كرسالة «هود» - عليه السلام - فى جنوبى شرقى
الجزيرة العربية، ورسالة «صالح» - عليه السلام - فى شماليها
الغربى، كما عرفوا التوحيد من رسالة «إسماعيل» -عليه السلام -،
ولكن بمرور الزمن نسوا هذه الرسالات، وتحولوا إلى الوثنية وعبادة
الأصنام، وأصبح لهم آلهة كثيرة مثل: «هبل» و «اللات» و «العزى».
وعلى الرغم من انتشار عبادة الأصنام انتشارا واسعا فى بلاد العرب،
فإن هناك ما يدل على أنهم لم يكونوا يعتقدون اعتقادا حقيقيا
فيها، فيحكى القرآن الكريم على لسانهم قولهم: {ما نعبدهم إلا
ليقربونا إلى الله زلفى}.الزمر:3].
وكان منهم من رفض عبادة الأصنام رفضا قاطعا، وهم الذين سموا
بالحنفاء، كورقة بن نوفل، و «زيد بن عمرو بن نفيل»، و «عثمان بن
الحويرث»، و «عبيد الله بن جحش»، و «قس بن ساعدة الإيادى»،
وهؤلاء لم تقبل أذهانهم عبادة الأصنام، فاعتنق بعضهم المسيحية،
وترقب بعضهم الآخر ظهور الدين الحق.
وإذا كانت الوثنية قد سادت بلاد العرب، فإن اليهودية والمسيحية
عرفت طريقها إليها فتركزت المسيحية فى «نجران» التى كانت
وقتئذ من أرض «اليمن»، فى حين استقرت اليهودية شمال «الحجاز»،
فى «يثرب» و «خيبر»، و «وادى القرى» و «تيماء».
ومن العجيب أن اليهودية والنصرانية لم تنتشرا على نطاق واسع فى
بلاد العرب، ولعل ذلك راجع إلى أن اليهودية تعد ديانة مغلقة،
فأهلها كانوا يعتبرونها ديانة خاصة بهم، فلم يدعوا أحدا إليها، ولم
يرحبوا باعتناق غيرهم لها، أما المسيحية، فعلى الرغم من أنها
ديانة تبشيرية، وأهلها يرغبون فى نشرها فى العالم فإنه يبدو
صفحة ٥
أنها حين وصلت إلى بلاد العرب كانت قد بلغت درجة من التعقيدات
والخلافات لم تستسغها عقول العرب.
الحياة الثقافية:
كان العرب قبل الإسلام أمة أمية، لا تعرف القراءة والكتابة إلا فى
نطاق ضيق، ولم يكن الذين يعرفونها فى «مكة» مثلا يزيدون على
عشرين شخصا، ومع ذلك فإنهم امتلكوا قدرا لا بأس به من المعرفة،
واتصلوا بالعالم الخارجى من خلال رحلاتهم التجارية، فعرفوا الثقافة
الفارسية عن طريق إمارة «الحيرة» العربية، والثقافة اليونانية عن
طريق الإمارات العربية فى «الشام».
واكتسب العرب أيضا قدرا كبيرا من المعارف العلمية بالخبرة والتجربة
وبدافع الحاجة كالمعلومات الفلكية والجغرافية، دفعهم إلى معرفتها
تنقلاتهم الكثيرة، وارتحالهم من مكان إلى آخر، وحاجتهم إلى معرفة
مواسم نزول الأمطار وهبوب الرياح.
وتفوق العرب على غيرهم من الأمم فى مجال «علم الأنساب»، وذلك
لاعتزازهم بانتسابهم إلى قبائلهم، وبلغ من شدة اهتمامهم بعلم
الأنساب أن اعتنوا بأنساب الخيل، غير مكتفين بأنساب البشر.
أما الميدان الثقافى الذى برع فيه العرب فهو البلاغة والفصاحة،
فالعربى كان فصيحا بطبعه، بليغا بفطرته، ودليل ذلك فهمهم للقرآن
الكريم، الذى نزل بلغتهم وهو ذروة البلاغة والفصاحة.
وبرع العرب فى ميدان الشعر براعة واضحة، فهو ديوان حياتهم،
وشعراؤهم يعدون بالمئات، والشعر العربى إلى جانب كونه لونا
راقيا من ألوان الأدب يعد بعد القرآن الكريم مصدرا من مصادر معرفة
الحياة العربية بكل خصائصها ومظاهرها.
وكما تفوق العرب فى الشعر تفوقوا فى الخطابة، وكانوا يقيمون
الأسواق الأدبية التى تشبه مهرجانات المسابقات الأدبية فى الوقت
الحاضر، ومن أشهر تلك الأسواق سوق «عكاظ»، وكانت تعقد فيها
لجان للتحكيم بين الشعراء والخطباء، والقصيدة أو الخطبة التى يفوز
صاحبها يتناقلها الناس ويحفظونها، ويشيدون بقائلها، ومن القصائد
صفحة ٦
الرائعة ما كان يعلق فى «الكعبة»، وهى التى عرفت باسم
«المعلقات»، مثل معلقة «امرئ القيس» و «زهير بن أبى سلمى».
صفحة ٧
الفصل الثاني
*نشأة الرسول
نسب الرسول - صلى الله عليه وسلم -:
الرسول هو «محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبدمناف»،
يتصل نسبه بإسماعيل بن إبراهيم - عليهما السلام -. وكان جده
«عبد المطلب» قد نذر وهو يعيد حفر بئر «زمزم» - بناء على رؤية
رآها - أنه إن رزقه الله بعشرة من الأولاد ليذبحن أحدهم قربانا
للآلهة، فلما تحقق له ذلك أراد أن يفى بنذره، فضرب الأقداح عند
«الكعبة» كما كانت عادتهم على أولاده جميعا، ومن يخرج عليه
السهم يكن هو الذى ارتضته الآلهة قربانا لها، فخرج السهم على
«عبد الله» فعزم «عبد المطلب» على ذبح ابنه.
ولما ذاع خبر «عبد المطلب» مع ابنه فى «مكة» فزع أهلها من هذا
الحدث، وذهبوا إليه يثنونه عن أمره، فلما لم يجدوا منه استجابة
لرجائهم، اقترحوا عليه الذهاب إلى عرافة مشهورة؛ لعلهم يجدون
عندها لهذه المشكلة حلا، فوافقهم على ذلك.
فلما ذهبوا إلى العرافة وقصوا عليها ماحدث، اقترحت عليهم أن
يضربوا القداح عند آلهتهم، على «عبد الله» وعلى عشرة من الإبل،
فإن خرجت على «عبد الله» زادوا عشرة من الإبل، حتى ترضى الآلهة
وتخرج القداح على الإبل، ففعل ذلك «عبد المطلب»، حتى وصل العدد
إلى مائة، وعندئذ خرج السهم مشيرا إلى الإبل، ففرح «عبد المطلب»،
وفرحت معه «مكة»، ونحر الإبل، وأطعم الناس ابتهاجا بنجاة ابنه
الحبيب من الذبح.
زواج عبد الله من آمنة بنت وهب:
بعد نجاة «عبد الله بن عبد المطلب» من الذبح زوجه من «آمنة ابنة وهب
بن عبد مناف بن زهرة».
وبعد أيام من العرس خرج عبد الله فى رحلة تجارية إلى «الشام»،
فخرج مع قافلة قرشية وباع واشترى، وفى عودته مر بيثرب؛ ليزور
أخوال أبيه من «بنى النجار»، لكنه مرض فى أثناء زيارته، فلما بلغ
«عبد المطلب» خبر مرض ابنه، أرسل على الفور أكبر أبنائه «الحارث
بن عبد المطلب» إلى «يثرب» ليعود بأخيه، لكن «عبد الله» توفى قبل
صفحة ٨
أن يصل أخوه إلى «يثرب»، فحزن «عبدالمطلب» حزنا شديدا على
موت ابنه «عبدالله» الذى لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره، ولم
يمض على زواجه سوى شهور قليلة.
ولما خفت موجة الحزن على آمنة، بدأت تحس بجنين يتحرك فى
أحشائها، فتعلق به أملها، عسى أن يعوضها فقد زوجها الحبيب،
وأخبرت «عبدالمطلب» بحملها، ففرح لذلك فرحا شديدا، وامتلأ قلبه
أملا ورجاء فى أن يأتى هذا الحمل بولد يعوضه عن ابنه الفقيد.
حادثة الفيل:
بعد أن حكم «أبرهة» «اليمن» تملكته الغيرة من الكعبة المشرفة،
وأراد أن يصرف العرب عن زيارتها، فبنى كنيسة ضخمة بالغة
الروعة، تسمى «القليس»، وساق أهل «اليمن» إلى التوجه إليها
والتعبد فيها، لكنه لم يفلح فى ذلك، وزاد من غضبه أن أحد الأعراب
عبث بالكنيسة وقذرها، فأقسم «أبرهة» ليهدمن الكعبة، ويطأن
«مكة»، وجهز لذلك جيشا جرارا، تصاحبه الفيلة، وفى مقدمتها فيل
عظيم، ذو شهرة خاصة عندهم.
وحينما علمت العرب بنية «أبرهة» تصدوا له، لكنهم لم يفلحوا فى
وقف زحفه، حتى إذا بلغ جيش «أبرهة» «المغمس» - وهو مكان بين
«الطائف» و «مكة» - ساق إليه أموال «تهامة» من «قريش» وغيرها،
وكان فيها مائتا بعير لعبد المطلب بن هاشم، فهمت «قريش» وقبائل
العرب بقتال «أبرهة»، ولكنهم وجدوا أنفسهم لا طاقة لهم بحربه،
فتفرقوا عنه دون قتال.
أرسل «أبرهة» إلى «عبدالمطلب» يبلغه أنه لم يأت لحربهم، وإنما
جاء لهدم البيت، فإن تركوه وما أراد فلا حاجة له فى دمائهم، فذهب
«عبدالمطلب» إليه، فلما دخل نزل «أبرهة» من سريره، وجلس على
البساط، وأجلس «عبدالمطلب» إلى جانبه، وأكرمه وأجله، فطلب
«عبدالمطلب» منه أن يرد عليه إبله التى أخذوها، فقال «أبرهة»:
أعجبتنى حين رأيتك، وزهدت فيك حين كلمتنى، تترك بيتا هو دينك
ودين آبائك، جئت لأهدمه، وتكلمنى فى مائتى بعير أصبتها لك؟
صفحة ٩
فقال: «عبد المطلب»: إنى رب الإبل (أى صاحبها) وإن للبيت ربا
سيحميه. قال «أبرهة»: ما كان ليمتنع منى، فرد عليه «عبد المطلب»:
أنت وذاك، ثم رد «أبرهة» الإبل لعبد المطلب.
أمر «عبد المطلب» قريشا بالخروج من «مكة»، والاحتماء فى شعاب
الجبال، وتوجه هو إلى باب «الكعبة»، وتعلق به مع نفر من قريش
يدعون الله ويستنصرونه، وانطلق جيش «أبرهة» نحو «مكة»، وحينما
اقترب منها برك الفيل الأكبر الذى يتقدم الجيش رافضا الدخول،
وتعبوا فى إجباره على اقتحام «مكة»، وكانوا عندما يوجهونه إلى
جهة غير «مكة» ينهض ويهرول.
ثم شاء الله أن يهلك «أبرهة» وجيشه، فأرسل عليهم جماعات من
الطير، أخذت ترميهم بحجارة، فقضت عليهم جميعا، وتساقطوا
كأوراق الشجر الجافة الممزقة، كما حكى ذلك القرآن الكريم: [ألم تر
كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم فى تضليل وأرسل
عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف
مأكول]. [سورة الفيل].
مولد النبى - صلى الله عليه وسلم -:
وفى يوم الاثنين الموافق (12 من شهر ربيع الأول سنة 570م) (عام
الفيل) ولدت «آمنة» وليدها، يتلألأ النور من وجهه الكريم، أكحل
أدعج مختونا، يرنو ببصره إلى الأفق، ويشير بسبابته إلى السماء،
فهرولت قابلته، وهى «أم عبد الرحمن بن عوف» إلى جده «عبد
المطلب» تزف إليه البشرى، وتنقل إليه ذلك الخبر السعيد، فكاد
الرجل الوقور يطير من الفرحة، وفرح الهاشميون جميعا، حتى إن عمه
«أبالهب» أعتق الجارية «ثويبة» التى أبلغته الخبر، وكانت أول من
أرضعت خير البشر.
سمى «عبد المطلب» حفيده «محمدا»، وهو اسم لم يكن مألوفا أو
منتشرا فى بلاد العرب، ولما سئل عن ذلك، قال: رجوت أن يكون
محمودا فى الأرض وفى السماء.
طفولته وصباه:
فى اليوم السابع لميلاد النبى - صلى الله عليه وسلم - أمر جده بجزور
فنحرت، وأقام حفلا دعا إليه كبار رجالات «قريش» احتفاء بهذا
صفحة ١٠
الوليد الكريم، وانتظرت «آمنة» المرضعات اللائى كن يأتين من البادية
إلى «مكة»، ليأخذن الأطفال إلى ديارهن لإرضاعهم بأجر، وكانت
عادة أشراف «مكة» ألا ترضع الأم أطفالها، مفضلين أن تكون
المرضعة من البادية؛ لتأخذ الطفل معها، حيث يعيش فى جو ملائم
لنموه، من سماء صافية، وشمس مشرقة، وهواء نقى، وكانت هناك
قبائل مشهورة بهذا العمل مثل «بنى سعد».
وكان محمد من نصيب واحدة منهن تدعى «حليمة السعدية» لم تكن
تدرى حين أخذته أنها أسعد المرضعات جميعا، فقد حلت عليها
الخيرات، وتوالت عليها البركات، بفضل هذا الطفل الرضيع، فسمنت
أغنامها العجاف، وزادت ألبانها وبارك الله لها فى كل ما عندها.
مكث «محمد» عند «حليمة» عامين، وهو موضع عطفها ورعايتها، ثم
عادت به إلى أمه، وألحت عليها أن تدعه يعود معها، ليبقى مدة
أخرى، فوافقت «آمنة» وعادت به «حليمة» إلى خيام أهلها.
حادث شق الصدر:
بقى «محمد» عند «حليمة السعدية» بعد عودتها ثلاثة أعوام أخرى،
حدثت له فى آخرها حادثة شق الصدر، وملخصها كما ترويها أوثق
مصادر السيرة: أن «محمدا» كان يلعب أو يرعى الغنم مع أترابه من
الأطفال، خلف مساكن «بنى سعد» فجاءه رجلان عليهما ثياب بيض،
فأخذاه فأضجعاه على الأرض، وشقا صدره وغسلاه، وأخرجا منه
شيئا، ثم أعاداه كما كان.
ولما رأى الأطفال ما حدث، ذهب واحد منهم إلى «حليمة» فأخبرها
بما رأى، فخرجت فزعة هى وزوجها «أبو كبشة» فوجدا «محمدا»
ممتقعا لونه، فسألته «حليمة» عما حدث فأخبرها، فخشيت أن يكون
ما حدث له مس من الجن، وتخوفت عاقبة ذلك على الطفل، فأعادته
إلى أمه، وقصت عليها ماحدث لطفلها.
موت آمنة بنت وهب:
لما بلغ «محمد» السادسة من عمره أخذته أمه فى رحلة إلى «يثرب»؛
ليزور معها قبر أبيه، ويرى أخوال جده «عبد المطلب» من «بنى
النجار».
وفى طريق العودة مرضت «آمنة» واشتد عليها المرض، وتوفيت فى
صفحة ١١
مكان يسمى «الأبواء» بين «مكة» و «المدينة». وهكذا شاءت إرادة
الله أن يفقد «محمد» أمه، وهو فى هذه السن الصغيرة، وهو أشد ما
يكون احتياجا إليها، فتضاعف عليه اليتم، ولكن لله فى خلقه حكم لا
يعلمها إلا هو تعالى، فإن كان «محمد» قد حرم من أبويه. فإن الله
هو الذى سيتولى رعايته وتعليمه.
ضم «عبد المطلب» حفيده «محمدا» إلى كفالته؛ لأن ابنه «عبد الله» لم
يترك ثروة كبيرة، وكل ما تركه كان خمسة من الإبل، وبعضا من
الأغنام، و «أم أيمن» (بركة) التى أصبحت حاضنة «محمد» وراعيته
بعد فقد أمه، وقد عوضته كثيرا عن حنان الأم.
لكن كفالة «عبد المطلب» لمحمد لم تدم طويلا، إذ استمرت عامين بعد
وفاة «آمنة»، كان خلالهما نعم الأب الحنون، فحزن «محمد» على
فقده حزنا شديدا، وبكاه بكاء مرا وهو يودعه إلى مثواه الأخير.
وبعد وفاة «عبد المطلب» انتقل «محمد» إلى كفالة عمه «أبى
طالب»، ومع أنه لم يكن أكثر أعمامه مالا وأوسعهم ثراء، بل كان
أكثرهم أولادا وأثقلهم مؤونة؛ فإنه كان شديد العطف عليه،
والرعاية له، فضمه إلى عياله، وكان يفضله عليهم فى كل شىء.
اشتغاله برعى الغنم:
لم يرض «محمد» أن يكون عالة على عمه، وبخاصة أنه يرى ضيق
ذات يده، فأراد أن يعمل ليعول نفسه، ويكسب قوته، ويساعد عمه
إن أمكن ذلك، فاشتغل برعى الأغنام، وهو عمل يناسب سنه، وهذه
كانت حرفة الأنبياء من قبله، لقول النبى - صلى الله عليه وسلم -: «ما
من نبى إلا ورعى الغنم»، قيل: وأنت يا رسول الله؟ قال: «وأنا».
رحلته الأولى إلى الشام:
وجد «محمد» فى عمه «أبى طالب» عطفا وحنانا عوضه عن فقد
جده، فكان يؤثره على أولاده، ولا يكاد يرد له طلبا، فلما رغب
«محمد» فى أن يصحب عمه فى رحلة إلى «الشام»، أجابه إلى ذلك،
رغم أنه كان يخشى عليه من طول الطريق، ومشقة السفر، وهو لم
يزل غلاما صغيرا لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره.
صفحة ١٢
انطلق «محمد» مع عمه فى تلك الرحلة إلى «الشام»، وهناك حدثت له
قصة عجيبة لفتت أنظار القافلة كلها، لكنهم لم يستطيعوا لها
تفسيرا، وذلك أن راهبا نصرانيا، يدعى «بحيرا» كان يتعبد فى
صومعته فى بادية «الشام»، على طريق القوافل، ولم يكن يحفل
بأحد يمر عليه، لكنه فى هذه المرة نزل من صومعته لما رأى القافلة
القرشية وذهب إليهم، ودعاهم إلى طعام، وطلب منهم أن يحضروا
جميعا ولا يتركوا أحدا يتخلف.
ولما حضر «محمد» مع القوم سأل الراهب «أبا طالب»: من يكون منك
هذا الغلام؟ فقال: ابنى، فقال له: ما ينبغى لهذا الغلام أن يكون
أبوه حيا، فقال: ابن أخى، قال: صدقت. ثم رأى خاتم النبوة على
كتف النبى - صلى الله عليه وسلم -، وقال لأبى طالب: ارجع بابن أخيك
هذا فسوف يكون له شأن عظيم، واحذر عليه اليهود، فلو عرفوا منه
الذى أعرف ليمسنه منهم شر.
وقعت كلمات الراهب من «أبى طالب» موقعا جميلا، فشكر الراهب
على هذه النصيحة الغالية التى لا تصدر إلا عن رجل صالح، وعاد بابن
أخيه إلى «مكة».
رحلته الثانية إلى الشام فى تجارة خديجة:
ذهب «محمد» هذه المرة إلى «الشام» فى مهمة تجارية، لا للتنزه أو
الزيارة كما كان فى الأولى، ذلك أن «أبا طالب» رأى ابن أخيه قد
بلغ مرحلة الشباب، ولابد له من أن يتزوج ويعول أسرة، ولكن من
أين لمحمد بالمال؟ فقال لابن أخيه بعد أن أحسن له التدبير: «يا ابن
أخى أنا رجل لا مال لى، وقد اشتد الزمان علينا، وقد بلغنى أن
خديجة بنت خويلد استأجرت فلانا ببكرين (أى جملين صغيرين) ولسنا
نرضى لك بمثل ما أعطته فهل لك أن أكلمها؟» قال «محمد»: «ما
أحببت ياعمى».
ويكشف هذا الحوار القصير الظروف المالية الصعبة التى كان يمر بها
«أبو طالب»، لكن ذلك لم يجعله يضيق بابن أخيه، وإنما خاطبه فى
رفق وشاوره قبل أن يفاتحه فى أمر عمله مع «خديجة»، وفى
الوقت نفسه نلمس أن «محمدا» - صلى الله عليه وسلم - كان يشعر بما
صفحة ١٣
يعانيه عمه، فلم يملك إلا أن يقول له: «ما أحببت يا عمى».
توجه «أبو طالب» إلى «خديجة» وقال لها: «هل لك يا «خديجة» أن
تستأجرى «محمدا»؟ فقد بلغنا أنك استأجرت فلانا ببكرين، ولسنا
نرضى لمحمد دون أربعة». فأجابت «خديجة» بلهجة تحمل الوداد
والاحترام للشيخ الوقور: «لو سألت ذلك لبعيد بغيض فعلنا، فكيف
وقد سألته لقريب حبيب» (1).
خرج «محمد» فى تجارة «خديجة» يصحبه غلامها «ميسرة» وكان
صاحب خبرة فى التجارة ومعرفة بأصولها، أثيرا لديها، تأتمنه على
مالها وتجارتها، وكانت هذه الرحلة ناجحة وموفقة كل التوفيق،
وربحت أكثر من أية مرة سابقة.
وفى طريق العودة اقترح «ميسرة» على «محمد» أن يسبقه إلى
«مكة»؛ ليكون أول من يبشر «خديجة» بعودتهما سالمين وبنجاح
تجارتها، وعندما بلغ «خديجة» الأمر سرت أيما سرور، وأعجبت بما
قصه «ميسرة» على سمعها من شأن «محمد»، من أمانة، ورقة
شمائل، وسمو خلق، وازدادت إعجابا لما سمعت «محمدا»، وما لبث
هذا الإعجاب أن تحول إلى تقدير ورغبة فى الزواج.
مشاركة محمد فى الحياة العامة:
شارك «محمد» - صلى الله عليه وسلم - قومه فى حياتهم العامة قبل
البعثة، فاشترك فى «حرب الفجار»، وهو فى نحو الخامسة عشرة
من عمره، وهى حرب وقعت أحداثها فى الأشهر الحرم، ولذا سميت
بحرب الفجار، وسببها أن «النعمان بن المنذر» أمير «الحيرة» اعتاد
أن يرسل كل موسم قافلة تجارية إلى سوق «عكاظ» بالقرب من
«مكة» المكرمة، وكان يستأجر لها حراسا من القبائل القريبة من
«مكة»، فعرض رجلان أنفسهما لهذه المهمة، أحدهما من «هوازن»
يسمى «عروة»، والآخر من «كنانة» يسمى «البراض»، فاختار
«النعمان» «عروة»، فقتله «البراض»، فوقع القتال بين قبيلتيهما
لهذا السبب، واستمر أربع سنوات وانتهى بالصلح بين المتحاربين،
وقد وصف النبى - صلى الله عليه وسلم - مشاركته فى هذه الحرب
بقوله: «كنت أنبل على أعمامى» أى يرد إليهم نبل عدوهم إذا
رموهم بها.
صفحة ١٤
حلف الفضول:
وكما شارك «محمد» قومه فى الحرب فقد شاركهم فى السلم؛ حيث
شهد «حلف الفضول»، الذى تكون عقب حرب الفجار، وكان أول من
دعا إليه عمه «الزبير بن عبد المطلب»؛ لنصرة المظلوم أيا كان، من
أهل «مكة» أو من غيرهم، واجتمعت بعض بطون «قريش»: «بنو
هاشم» و «بنو زهرة»، و «بنو أسد»، و «بنو تيم» فى دار «عبد الله بن
جدعان»، وتعاهدوا ليكونن مع المظلوم حتى يرد إليه حقه. ويصف
النبى مشاركته فى هذا الحلف بقوله: «لقد شهدت مع عمومتى حلفا
فى دار «عبد الله بن جدعان» ما أحب أن لى به حمر النعم، ولو
أدعى به فى الإسلام لأجبت».
بناء الكعبة:
نزل سيل على «الكعبة» قبل بعثة النبى بحوالى خمسة أعوام، هدم
جدرانها، فعزمت «قريش» على إعادة بنائها، وقسمت العمل بين
بطونها، وكان النبى - صلى الله عليه وسلم - يعمل بنفسه معهم،
ويحمل الحجارة، حتى إذا ارتفع البناء نحو قامة الرجل اختلفوا فيمن
يضع «الحجر الأسود» فىمكانه؛ كل قبيلة تريد أن تحوز هذا
الشرف دون غيرها، واشتد الخلاف بينهم حتى تداعوا إلى الحرب،
ففزع «أبو أمية بن المغيرة» وخشى عاقبة ذلك، فأشار عليهم بأن
يحتكموا إلى أول رجل يدخل عليهم، فوافقوا على ذلك.
كان النبى - صلى الله عليه وسلم - أول داخل عليهم، فاستبشروا
خيرا، وقالوا: هذا الأمين رضينا به حكما، فطلب منهم أن يبسطوا
ثوبا، ثم وضع الحجر فيه، وطلب من زعماء القبائل أن يمسك كل منهم
بطرف، ليتمكنوا من رفع الحجر إلى موضعه، ثم أخذه النبى
- صلى الله عليه وسلم - بيده الشريفة، ووضعه فى مكانه.
زواج محمد من خديجة:
كانت «خديجة بنت خويلد الأسدية» امرأة شريفة، ذات حسب وجمال ومال
تزوجت مرتين من قبل، وعزمت بعد موت زوجها الثانى ألاتتزوج مرة
أخرى، وأن تتفرغ لإدارة ثروتها، وتنمية تجارتها. ولكنها حين اتصلت
بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وعمل فى تجارتها، ورأت فيه من خصال
الخير أعجبت به ورغبت فى الزواج منه، وأسرت بذلك إلى إحدى
صفحة ١٥
صديقاتها المقربات، فذهبت إلى «محمد» وسألته ما يمنعك أن
تتزوج؟ قال ما بيدى ما أتزوج به. قالت فإن كفيت ذلك
ودعيت إلى الجمال والمال والشرف والكفاءة، ألا تجيب؟ قال فمن هى؟
قالت خديجة، فقال كيف لى بذلك؟ قالت على ذلك، فوافق علىالفور،
وعادت «نفيسة» إلى «خديجة»، تزف إليها تلك البشرى فسرت سرورا عظيما.
وذهب «محمد» مع أعمامه إلى بيت «خديجة» لإعلان الخطبة، وألقى
«أبو طالب» خطبة قصيرة أثنى فيها على ابن أخيه، وأنه لا يعدله
شاب فى «قريش»، فى خلقه وصدقه وأمانته، وإن كان قليل المال،
فالمال عرض زائل، ثم وجه كلامه إلى أهل «خديجة» فقال: «إن
محمدا له فى «خديجة» رغبة، ولها فيه مثل ذلك»، فوافقوا على
الخطبة، وأقاموا وليمة بهذه المناسبة السعيدة، وقدم
«محمد» لخديجة صداقا قدره عشرون بكرة، ثم تم الزواج،
وانتقل «محمد» إلى بيت «خديجة» حيث عاش معها.
وهكذا شاءت الأقدار لهذه السيدة الكريمة أن تقترن بسيد الخلق
أجمعين، وأن تصبح أول أم للمؤمنين، وأن تكون خير عون له،
فكانت أول من آمن به وكانت تواسيه بمالها، كما كانت حياته معها
التى دامت نحو خمسة وعشرين عاما تملؤها السعادة، ورزقه الله
منها بستة أولاد؛ اثنين من الذكور هما: «القاسم» و «عبد الله»، وقد
ماتا قبل البعثة، وأربع بنات، هن: «زينب» وقد تزوجها ابن خالتها
«أبو العاص بن الربيع»، و «رقية» و «أم كلثوم» وقد
تزوجهما «عثمان بن عفان»، واحدة بعد الأخرى، و «فاطمة»
وتزوجت بعلى بن أبى طالب.
من الزواج إلى البعثة:
كان عمر النبى - صلى الله عليه وسلم - حين تزوج السيدة «خديجة» خمسا وعشرين سنة،
وكان عمره حين بعثه الله بالرسالة على رأس الأربعين، فماذا كان
يعمل فى المدة التى بين الزواج والبعثة؟
إن مصادر السيرة النبوية لم تمدنا بمعلومات كثيرة عن هذه الفترة من
حياته، سوى أنه كان دائم التأمل فى الكون الفسيح، والتفكير فى
صفحة ١٦
القوة التى أبدعته وأحكمت صنعه، وأنه رفض ما عليه قومه من
عبادة الأصنام، وما غرقوا فيه من الفساد والمجون، فلم يسجد لصنم،
ولم يحضر مجلس لهو وعبث، بل كان يعتكف شهرا من كل سنة فى
غار «حراء»، يتعبد فيه، ويجد فيه فرصة مناسبة للتفكر والتأمل،
بعيدا عن صخب «مكة» وضجيجها. وكان شهره المفضل الذى يقضيه
فى الغار هو شهر رمضان المبارك.
ويبدو أنه فى تأمله هذا كان ينشد مخرجا للعالم مما هو فيه من شرك
ووثنية؛ لأن ما بقى من الشرائع القديمة لم يكن كافيا ليريح
نفسه المتشوقة إلى الحق المجرد والحقيقة المطلقة، وظل كذلك حتى
أتاه «جبريل» - عليه السلام- بالوحى.
صفحة ١٧
الفصل الثالث
*بعثة الرسول -
صلى الله عليه وسلم -
بدء الوحى:
ظل «محمد» - صلى الله عليه وسلم - يتردد على غار «حراء» حتى
شارف الأربعين من عمره، وكان أول ما بدئ به من الوحى الرؤيا
الصادقة، كما جاء فى حديث «عائشة»، فكان لا يرى رؤيا فى نومه
إلا جاءت كفلق الصبح، وزادته رؤاه الصادقة أملا فى قرب الوصول
إلى الحقيقة.
وبينما هو فى غار «حراء» غارق فى تأمله وتدبره؛ إذ جاءه
«جبريل» - عليه السلام - فى ليلة من ليالى رمضان، فقال: «اقرأ»،
قال: «ما أنا بقارئ»، قال: «فأخذنى فغطنى، حتى بلغ منى
الجهد، ثم أرسلنى، فقال: «اقرأ»، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذنى
فغطنى الثانية حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى، فقال: اقرأ،
فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذنى فغطنى الثالثة، ثم أرسلنى فقال
(اقرأ باسم ربك الذى خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم)
(سورة العلق: 1 - 3) فرجع بها رسول الله يرجف فؤاده، فدخل على
«خديجة بنت خويلد» -رضى الله عنها - فقال: «زملونى زملونى»
فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة وأخبرها الخبر: «لقد
خشيت على نفسى»، فقالت «خديجة»: كلا والله ما يخزيك الله أبدا،
إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقرى الضيف،
وتعين على نوائب الحق». [صحيح البخارى، كتاب بدء الوحى].
طمأنت «خديجة» «محمدا» بتلك الكلمات الصادقة والعبارات المواسية،
وذهبت به إلى ابن عمها «ورقة بن نوفل» أحد الحنفاء العرب، وكان
قد اعتنق النصرانية، فقالت له: «يا ابن عم، اسمع من ابن أخيك،
فقال له «ورقة»: يا ابن أخى ماذا رأيت، فأخبره رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - خبر ما رأى ، فقال له «ورقة»: هذا الناموس (جبريل
أمين الوحى) الذى نزله الله على «موسى»، ياليتنى فيها جذعا،
ليتنى أكون حيا، إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -: «أو مخرجى هم؟» قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به
إلا عودى، وإن يدركنى يومك أنصرك نصرا مؤزرا، ثم لم يلبث
صفحة ١٨
«ورقة» أن توفى وفتر الوحى».
توقف الوحى بعد ذلك فترة من الزمن حتى شق على «محمد» فأحزنه
ذلك، فجاءه «جبريل» بسورة «الضحى»، يقسم له ربه - وهو الذى
أكرمه بما أكرمه به - ما ودعه وما قلاه.
المسلمون الأوائل:
أخذ النبى - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى الإسلام سرا، فكانت
«خديجة بنت خويلد» - رضى الله عنها - أول الناس إسلاما وإيمانا
بالله ورسوله، ثم تلاها «على بن أبى طالب» -رضى الله عنه - وكان
فى نحو العاشرة من عمره، ثم «زيد بن حارثة» مولى رسول الله
- صلى الله عليه وسلم -، ثم أسلم «أبو بكر بن أبى قحافة»، وكان
رجلا مألفا لقومه، محببا سهلا، فأسلم على يديه طائفة من كبار
الصحابة، أمثال: «عثمان بن عفان»، و «الزبير بن العوام»،
و «عبد الرحمن بن عوف»، و «سعد بن أبى وقاص»، و «طلحة بن
عبيد الله».
ثم أسلمت بعد هؤلاء طائفة أخرى، عد منهم «ابن إسحاق» نحو
خمسة عشر فردا ما بين رجل وامرأة، هم: «أبو عبيدة بن الجراح»،
و «أبو سلمة ابن عبد الأسد» و «عثمان بن مظعون»، وأخواه «قدامة»
و «عبد الله»، و «عبيدة بن الحارث ابن المطلب» و «سعيد بن زيد بن
عمرو بن نفيل»، وامرأته «فاطمة بنت الخطاب»، و «أسماء»
و «عائشة» بنتا «أبى بكر»، و «خباب بن الأرت»، و «عمير بن أبى
وقاص»، و «عبد الله بن مسعود»، و «مسعود ابن القارى» - رضى الله
عنهم - وكان ذلك فى مرحلة الدعوة السرية.
الدعوة السرية:
كان النبى - صلى الله عليه وسلم - يعلم تمام العلم عناد «قريش»
وكبرياءها وإصرارها على التمسك بالقديم، واعتزازها بآبائها
وأجدادها وعبادتها للأصنام؛ لذا فلن تسلم بسهولة، أو تذعن
لدعوته، بل ستقاومه حتى آخر سهم فى جعبتها، لأنها اعتقدت أن
الإسلام يهدد مصالحها ويقضى على سيطرتها على «مكة» وما
حولها، ولو علمت أن الإسلام سيجعلها سيدة العالم ما قاومته لحظة
واحدة ولرحبت بدعوته.
أدرك النبى - صلى الله عليه وسلم - ذلك، فقرر أن تكون دعوته لدينه
صفحة ١٩