وهذا مثل جيد لما يقوله الميتافيزيقيون للناس عن موضوعات بحثهم، إذ تراهم يحيلون الناس على حاسة سادسة أو ما يشبهها؛ ليقطعوا على معارضيهم خط الرجعة، فإما أن ترى معهم ما يرونه، وإذن فأنت ذو حاسة سادسة مثلهم، وإما أن تعجز عن إدراك ما يدركونه هم، وإذن فالنقص فيك أنت والكمال لهم هم وحدهم!
لكن من حقنا أن نطالبهم بترجمة إدراكاتهم الحدسية إلى لغة الإدراكات التي تتم بالحواس الأخرى، وإلا كان كلامهم عن الحدس والإدراك الحدسي فارغا بغير معنى، ما هذا الحدس الذي يحيلوننا عليه في إدراك القيم؟ انظر ما يقوله الأستاذ «جود»، مع أنه يقوله في مجرى اعتراضه للمذهب الوضعي المنطقي مدافعا عن القيم الموضوعية، يقول: «لست أجرؤ على تعريف كلمة «حدس»، غير أني أعني بها فاعلية عقلية تجمع بين الإدراك الحسي المباشر وبين تلك الصفة المميزة للذكاء، التي هي قدرته على إدراكه ما ليس بمحسوس، وإذن فالحدس هو إدراكنا المباشر لطبيعة ما ليس بمحسوس.»
25
فماذا أنت قائل لرجل يزعم لك أن شيئا ما «س» موجود، فإذا سألته: وكيف أدركه؟ أجابك: تدركه بالحدس، فتنبئه بأنك لا تعرف ماذا يكون هذا الحدس إذا لم يكن حاسة من الحواس المعروفة، فيجيبك: «ولا أنا أجرؤ على تحديد معناه»!
تصور شيئا شبيها بهذا في الحياة اليومية، وانظر كيف يكون موقفك منه، تصور شخصا يزعم لك أن برتقالة موجودة أمامك في الطبق، وتنظر فإذا الطبق خال، وتسأله: أين البرتقالة؟ إني لا أراها، فيجيبك: إنها هناك ولكن طريقة إدراكها ليست هي العين، بل هي شيء لا أستطيع أن أصفه لك ولا أن أقول ما هو! تصور هذا في الحياة اليومية، وقل لي ماذا أنت ظان بصديقك هذا إذا لم تظن بقوله إنه لا يحمل معنى، وإذا كان هذا في الحياة اليومية فلماذا لا يكون شبيهه في الأقوال الميتافيزيقية؟ فقل معنا وأنت مطمئن إلى حكمك: إن العبارات الميتافيزيقية التي تحدثنا عن أشياء لا تدركها الحواس، عبارات فارغة لا تعني شيئا ولا تدل على شيء.
لو قال هؤلاء الحدسيون: إن «الحدس» هو الإدراك الحسي المباشر، كإدراكك لبقعة اللون مثلا؛ لتيسر لنا فهم ما يقولون، ولو قالوا: إن «الحدس» هو إدراك عقلي مباشر لنتيجة تلزم عن مقدمات معترف بها، أو تلزم عن تعريفنا لبعض الألفاظ؛ لتيسر لنا أيضا فهم ما يقولون، لكنه محال علينا أن نتصور كيف يكون الحدس في غير هاتين الحالتين، أعني كيف يكون في حالة لا هي إدراك حسي مباشر، ولا هي استنتاج مباشر من مسلمات؟ والحدس الذي يطالبوننا به في إدراك القيم الموضوعية كالخير أو الجمال، هو من هذا الضرب العسير، فإذا اختلف شخصان في حدسهما الحسي، أي في إدراكهما شيئا بالحس إدراكا مباشرا، أو إذا اختلفا في استنتاج نتيجة معينة من مسلمات معينة؛ لهان فض النزاع بينهما بالرجوع إلى الشيء المحس وإلى الحاسة التي تدركه، أو بالرجوع إلى المسلمات وإلى النتيجة التي انتزعت منها للتأكد من أن المتجادلين متفقان أو مختلفان فيما يدركانه ويصفانه، أما إذا اختلف شخصان في الحدس الأخلاقي - مثلا - بحيث قال أحدهما عن شيء: إني أراه خيرا، وقال الآخر عنه: إني أراه شرا، فمحال أن تجد لهما سبيلا لحسم النزاع، ومن ثم كان النقاش في مثل هذا ضربا من العبث لا ينتهي وإن طال أبد الآبدين، فلا عجب إذن أن يظل الميتافيزيقيون طوال التاريخ الفكري كله، يقولون ثم يعيدون ما قالوه، ثم يبدءونه من جديد وهلم جرا، لا اتفاق بينهم، ولن يكون اتفاق؛ لأنه لا إشكال بالمعنى المفهوم من هذه الكلمة في مجال العلوم ومجال الحياة اليومية على السواء.
الفصل الخامس
الميتافيزيقا تحت معاول التحليل: التحليل عند «مور»
1
قد تجد من الفلاسفة أنفسهم من يستصغر شأن فلاسفة التحليل؛ لأن هؤلاء الفلاسفة التحليليين بدل أن ينظروا نظرة شاملة واسعة إلى الإنسان وقيمته ومصيره، وإلى كمال الله أو لانهائية الكون، تراهم يشغلون أنفسهم بمناقشات تفصيلية تحليلية في معنى هذه العبارة أو تلك ، مما يقع لهم عرضا في حديث الناس، إنهم لا يطيرون على أجنحة من الخيال المتأمل، ولا يضربون في مجاهل الغيب، ولا ينتجون النظريات الضخمة الفخمة، إنما زادهم كله تحليلات لغوية؛ لأن دراسة الألفاظ قد شغلتهم عن دراسة العالم.
صفحة غير معروفة