وإذا أردنا أن نسوق أمثلة من الأقوال الميتافيزيقية لنحللها ولنبين خلاءها من المعنى، فلا يتحتم أن نختار جملة فيها كلمة «مطلق» حتى تجيء هذه الجملة مما يصح وصفه بأنه قول ميتافيزيقي، فحسبنا أن يكون في الجملة كلمة دالة بحكم تعريفها على مسمى من غير المحسوسات؛ ليكون لنا الحق في اعتبارها قولا ميتافيزيقا بالمعنى الأرسطي: فمن أهم المشكلات التي تبحثها ميتافيزيقا أرسطو، هذه المشكلة: «هل هنالك عناصر لا حسية، وإن كان الأمر كذلك، فهل هي من نوع واحد أو أكثر؟»
5
وسأختار الآن للتحليل هذه العبارة الآتية: «كل شيء في هذا العالم يحتوي على ذات ووجود.» وهي عبارة وردت في كتاب «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية» (ص24) للمغفور له الشيخ مصطفى عبد الرازق، قالها وهو يعرض لخصائص الفلسفة الإسلامية.
خذ كلمات هذه العبارة السابقة واحدة واحدة، لنحلل مدلولها ونقف على وظيفتها في تصوير المعنى المراد، لكننا قبل ذلك ينبغي أن نلاحظ أن ألفاظ اللغة نوعان رئيسيان من حيث المهمة التي تؤديها اللفظة في بناء العبارة، فاللفظة إما أن تكون واردة في العبارة لتسمي شيئا ما،
6
وإما أن تكون واردة لتقوم بعملية البناء اللفظي بين أجزاء العبارة الأخرى
7
دون أن تكون هي ذاتها اسما لشيء من أشياء العالم، فلو قلت عبارة كهذه: «القلم بين المحبرة والكتاب» كان هنالك ثلاثة ألفاظ، كل منها يسمي شيئا من أشياء العالم الخارجي، وهي «القلم» و«المحبرة» و«الكتاب»، لكن هنالك لفظتين تقومان بعملية البناء دون أن تسمي الواحدة منهما شيئا، وها لفظتا «بين» و«و»، فليس في العالم شيء اسمه «بين»، كما أنه ليس في العالم الخارجي شيء اسمه «و»، فهاتان اللفظتان البنائيتان وأمثالهما تكون الإطار للصورة المراد رسمها بالألفاظ الأخرى.
ونعود الآن إلى العبارة التي نريد تحليلها: «كل شيء في هذا العالم يحتوي على ذات ووجود ... إلخ.» فنلاحظ أنها تحتوي على أربعة ألفاظ شيئية فقط، وهي كلمات «شيء» و«عالم» و«ذات» و«وجود»، وأما سائر ألفاظها (وهي: «كل» «في» «هذا» «يحتوي على») فليست أسماء الأشياء، إنما هي تقوم بيناء الصورة المراد تصويرها من الأربعة المسميات السالفة الذكر.
والسؤال الذي يجدر بنا أن نبدأ به التحليل هو: هل هذه الأسماء الشيئية تسمي أشياء حقا، أم أنها لا ترمز إلى شيء، ولا يكون لنا منها إلا الخديعة والضلال ؟ نبدأ بكلمة «شيء» فنلاحظ أنها كلمة ليست بذات معنى، أي إنها لا ترمز إلى فرد بذاته، فما دمت تستطيع أن تقول عن كل كائن بغير استثناء: إنه «شيء»، إذن فهذه الكلمة ليست اسما دالا مميزا لفرد بعينه من الأفراد، وإذن فهي لا تزيد عن الرمز «س» المجهول الدلالة، فخير لنا أن نضع «س» مكانها، حتى نجنب أنفسنا كل خطأ يحتمل الوقوع فيه بسبب استعمال كلمة لا تدل على شيء، إذ قد نظن أنها دالة، فكلمة «شيء» هي من الكلمات العامة التي اعتبرها «كارناب»
صفحة غير معروفة